25-مايو-2019

تضع الصين خطة طويلة الأمد للسيطرة على اقتصاد التكنولوجيا في العالم (Getty)

بدأت الصين منذ مطلع الألفية الثالثة بالتوسع اقتصاديًا في منطقة الشرق الأوسط بعد طرحها لمنتجات إلكترونية بديلة عن الواردات الإلكترونية بأسعار منافسة قد تصل لنصف ثمن المنتج الياباني، لاحقًا تبيّن أن منافسة الصين للمنتجات اليابانية كانت جزءًا من مخخط تطمح من ورائه للسيطرة اقتصاديًا على القرن الجاري، وتحويله إلى "قرن الأمجاد الصينية".

تشير تقارير إحصائية ترصد بيانات نمو الاقتصاد الصيني ما بين عامي 1980 – 2017 إلى تضاعف الاقتصاد الصيني 42 مرة، وزيادة قيمته من 305 مليارات دولار إلى 12.7 تريليون دولار

التنين الصيني إلى القمة العالمية

عملت الصين خلال العقود الأربعة الماضية التي أعقبت إعلان الزعيم الصيني دينغ سياو بينغ (1904 – 1997) سنة 1978 سياسة "الإصلاح والانفتاح"، على الانتقال بالاقتصاد المحلي من الاقتصاد الموجه إلى سياسة السوق المفتوح، حيث يُعتبر هذا التحول من أهم النقاط التي رسمت ملامح السياسة الصينية الحالية، وفرضت عليها دخول حرب اقتصادية مع واشنطن في الوقت الراهن للمنافسة على بطاقة القوة الاقتصادية رقم واحد في العالم.

اقرأ/ي أيضًا: "الحل الصيني" يُزاحم أمريكا ببطء على قيادة العالم

تشير تقارير إحصائية ترصد بيانات نمو الاقتصاد الصيني ما بين عامي 1980 – 2017 إلى تضاعف الاقتصاد الصيني 42 مرة، وزيادة قيمته من 305 مليارات دولار إلى 12.7 تريليون دولار، وارتفاع عدد أصحاب المليارات في الصين إلى 620 ليكونوا الأول عالميًا، وحصولها على المرتبة الأولى كأكبر مصدر في العالم بما يساوي 2.49 تريليون دولار من البضائع والخدمات عام 2017، أكثر بكثير من الولايات المتحدة التي احتلت المرتبة الثانية. علمًا أن الصادرات الصينية بلغت عام 1980 واحدًا وعشرين مليار دولار.

إضافة إلى ذلك فقد سجل ما بين الأعوام عينها ارتفاع نمو الاقتصاد الصيني بنسبة 10.2 بالمئة، وارتفعت قيمة الاستهلاك المنزلي 90 مرة من 49 مليار دولار إلى 4.4 تريليونات دولار، كما بلغت قيمة الاستثمارات الخارجية الصينية 384 مليار دولار بين عامي 2016 و2017 فقط.

تعطي هذه الأرقام صورة واضحة عن التحول الاقتصادي الذي عملت الصين على تنميته حتى تكون القوة الاقتصادية الأولى عالميًا، ومثّل عام 2013 تحولًا مهمًا في المشهد السياسي الصيني المعاصر بانتخاب شي جين بينغ رئيسًا للبلاد، الذي يعد أحد أقوى القادة السياسيين في تاريخ البلاد، ليس لحجم القدرات الاقتصادية والبشرية والعسكرية الضخمة التي تتمتع بها الصين في عهده، وإنما أيضًا لاستحواذه دستوريًا على كافة السلطات السياسية.

يصف تقرير لمجلة فورين أفيرز الأمريكية جين بينغ بأنه قائد الثورة الثالثة في الصين، على اعتبار أن ماوتسي تونغ قائد الثورة الأولى، وشياو بينغ قائد الثورة الثانية، وتضيف المجلة بأن جين بينغ عبر إطلاق الثورة الثالثة يسعى إلى تعزيز مبادئ الصين الجديدة على الصعيد العالمي، بعدما سمحت له الحكومة بالعمل كرئيس لمدى الحياة، مشيرًة أن الصين غير الليبرالية تريد القيادة في نظام عالمي ليبرالي.

طريق الحرير الجديد.. بوابة الصين للقمة العالمية

يعتبر مشروع طريق الحرير الجديد الذي تعمل الصين على إنشائه بين عشرات الدول مفتاح سيطرتها على القرن الحادي والعشرين اقتصاديًا، ويطلق على المشروع اسم "حزام واحد.. طريق واحد"، ويتضمن خطوطًا للسكة الحديدية مع بنيتها التحتية مثل الطاقة والإنترنت، ويمتد من غرب الصين مرورًا بآسيا الوسطى وصولًا إلى أوروبا حتى الشرق الأوسط.

ويتكون الطريق البحري من موانئ جديدة، وسفن عملاقة، ومسارات بحرية تمتد من جنوب الصين عبر المحيط الهندي وصولًا إلى أفريقيا، ثم عبر البحر المتوسط وصولًا لأوروبا، وتتوقع الصين أن تتجاوز حجم التجارة عبر طريق الحرير الجديد 2.5 تريليون دولار سنويًا في حال نجح بتحقيق أهدافه، بحسب مجلة ذي ويك الأمريكية، التي أضافت أن الصين ضخت حتى الآن تريليون دولار للاستثمار في المشروع.

الحرب الباردة التقليدية.. الاشتراكية VS الرأسمالية

كان مخطط الصين في صعودها للقمة العالمية يسير وفق المرسوم له، لكن انتخاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قلب سياسة واشنطن الخارجية رأسًا على عقب، بعدما قدمت إدارة الرئيس السابق باراك أوباما تسهيلات اقتصادية للصين، حيث يسعى ترامب لتحقيق شعار "أمريكا أولًا" من خلال العقوبات الأحادية التي تفرضها إدارته على حلفاء واشنطن السابقين، الذين تربطهم معها تبادلات تجارية بمليارات الدولارات، فكيف إذا كانت الصين؟

فقد دخلت بكين وواشنطن منتصف الشهر الجاري مستوى مرتفعًا من الحرب التجارية المفتوحة بعد رفع الصين الرسوم الجمركية على البضائع الأمريكية بقيمة 60 مليار دولار ردًا على قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب برفع الرسوم الجمركية على واردات صينية بقيمة 200 مليار دولار، وذلك بعد فشل الطرفين بالتوصل لاتفاق ينهي الصراع التجاري بينهما.

ويحتدم الصراع التجاري بين الطرفين بعد حذف بكين مجموعة من المطالب الأمريكية التي تضمنتها مسودة الاتفاق التجاري المقترح من واشنطن، وشملت المطالب التي حذفتها بكين، إيقاف نقل التكنولوجيا القسري، ومنع سرقة الملكية الفكرية، وعدم الضغط للحصول على الأسرار التجارية للشركات الأمريكية، وإيقاف الدعم الحكومي للشركات الصينية، وصولاً إلى الخدمات المالية، مع ضرورة إيقاف تدخل البنك المركزي الصيني في تحديد قيمة العملة الصينية، وتحويلها إلي وعود بلا صيغة قانونية ملزمة.

ويبدو أن واشنطن تخوض مع بكين صراعًا تقليديًا يعود لخمسينات القرن الماضي ممثلًا بالمعسكرين الاشتراكي – الرأسمالي، رغم أن الصين تشهد تحولًا جذريًا من التجربة الماوية الاشتراكية إلى التجربة الاشتراكية/الرأسمالية التي تعتمدها غالبية الدول العربية ذات النظام الاشتراكي الستاليني، إلا أنها بعلمها ذي الخلفية الحمراء، والنجوم الخمس الحمراء التي تتصدر الزاوية اليسرى برمزيتها للحزب الشيوعي الصيني، لا تزال تحافظ على نظام حكم اشتراكي صارم يقيد المواطنين.

وانتقدت وسائل إعلام صينية في وقت سابق تقريرًا أمريكيًا اتهم بكين بسرقة حقوق الملكية الفكرية من مؤسسات أمريكية متعاقدة معها تقدر قيمتها بمئات المليارات من الدولارات، واصفًة التقرير بأنه "رواية من الخيال العلمي"، واتهمت واشنطن بتحولها لـ"أداة سياسية وسلاح لتحجيم الدول الأخرى وستارًا للتنمر على العالم".

وتهدد العقوبات التي فرضها ترامب اقتصاد واشنطن بخسائر تصل لعشرات المليارات من الدولارات في حال استمرت العقوبات الاقتصادية المفروضة على الصين، فقد ذكر تقرير نشرته مؤسسة تكنولوجيا المعلومات والابتكار أن التأثير المحتمل للقيود الشديدة على صادرات التكنولوجيا قد يكبد الشركات الأمريكية خسائر تصل إلى 56.3 مليار دولار من دخل الصادرات على مدى خمس سنوات، مضيفةً أن الفرص الضائعة تهدد ما يصل إلى 74 ألف وظيفة.

لكن لماذا تستهدف واشنطن شركة هواوي الصينية؟

 ووسع الرئيس الأمريكي دائرة العقوبات التي تستهدف الصين الأسبوع الفائت بفرضه عقوبات على شركة هواوي الصينية، وتضمنت العقوبات منع الشركة من الحصول على مكونات وتكنولوجيا من شركات أمريكية بدون موافقة واشنطن، وفي اليوم عينه وقع ترامب أمرًا تنفيذيًا يمنع الشركات الأمريكية من استخدام معدات اتصالات تصنعها شركات يعتقد أنها تشكل خطورة على الأمن القومي.

واستندت الإدارة الأمريكية في فرضها عقوبات على الشركة الصينية لتقرير من الحكومة الأسترالية يقول إن معدات شبكة اتصالات الهواتف المحمولة من الجيل الخامس إذا تمكنت جهات معادية من اختراقها يمكنها أن تقلب البنية التحتية الحساسة، وكل شيء من الطاقة الكهربائية إلى إمدادات المياه والصرف الصحي، حيثُ شاركت الحكومة الأسترالية شكوكها فيما يخص شركة هواوي مع نظيرتها الأمريكية، علمًا أن أستراليا فرضت منتصف العام الماضي حظرًا على الشركة الصينية.

وتأسست شركة هواوي الصينية عام 1987 في إقليم شنجن في جنوب الصين، وهي توازي شركة جوجل الأمريكية بالشهرة، وتعد ثاني أكبر شركة في العالم بعد شركة سامسونغ، ولا يقتصر عملها على الأجهزة الإلكترونية فقط، بل يشمل شبكات الاتصالات والأجهزة الذكية والخدمات السحابية، وتجاوزت إيراداتها العام الماضي مائة مليار دولار، وأعلنت في العام عينه عن مخخط لرفع معدل الإنفاق السنوي في مجال التنمية والأبحاث من 15 إلى 20 مليار دولار.

السيطرة على الجيل الخامس أم الهيمنة على العالم؟

لكن أزمة الإدارة الأمريكية مع عملاق التكنولوجيا الصينية تعتبر جزءًا من مجموعة أزمات متعددة الأوجه تسعى فيها واشنطن لردع التنين الصيني من النهوض، فالمؤشرات الاقتصادية الصادرة عن مراكز الأبحاث الدولية تؤكد نمو الاقتصاد الصيني في مجال الصناعة والتجارة، فضلًا عن توسعها سياسيًا عبر قارات العالم الثلاث، ودخولها كند للإدارة الأمريكية في الصراعات المسلحة التي يشهدها العالم.

بيد أن حرب ترامب التجارية مع الصين قد تنقلب عليه من خلال إجباره حلفاء واشنطن على دفع المزيد من الأموال مقابل حماية مصالحهم، وقد تقود ملاحقة ترامب لمصالح أمريكا المحلية على حساب مصالح حلفائها بلاده نحو الانعزال دوليًا، فهي تخوض مجموعة من الصراعات الدولية في كوريا الشمالية وإيران وفنزويلا، وتقول تقارير صحفية إن تبني واشنطن للسياسات عينها في عشرينات القرن الماضي ساهم في غرس بذور الحرب العالمية الثانية.

ووصفت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية ثقة ترامب المتزايدة بقوة الاقتصاد الأمريكي بـ"المقامرة الاقتصادية"، بعد قراره تصعيد الحرب التجارية مع بكين، وعلى الرغم من اختلاف المحللين في مدى إعاقة الحرب التجارية للنمو الاقتصادي، فإنهم يروون أن التكلفة التعريفية سوف تنتقل إلى الشركات أو المستهلكين بأسعار أعلى عن السابق.

وترى الصحيفة بالاستناد لتوقعات المحللين أن الرسوم التي فرضتها إدارة ترامب قد تزيد من حدوث ركود اقتصادي، وانخفاض في إجمالي الناتج المحلي بنحو 0.25 بالمئة إلى 0.35 بالمئة خلال ستة أشهر، على الجانب الأمريكي، فيما يزيد التصعيد في الحرب التجارية من تراجع النمو بمقدار نصف نقطة مئوية خلال العام الجاري على الجانب الصيني.

اقرأ/ي أيضًا: العولمة تتجه شرقًا.. "أمريكا أولًا" تفتح الطريق أمام "تنين" الصين

كما تحدثت تقارير منفصلة عن أن الحرب الحالية تدور للسيطرة على الجيل الخامس من التكنولوجيا التي تمنح الفائز مكاسب كبيرة من عقود نشر الشبكات حول العالم، واعتبر خبراء أن الصراع الدائر الذي يشبه الحرب الباردة قد يشهد انقسام العالم إلى معسكرين اقتصاديين، مضيفة أنه على الرغم من إمكانية توصل الرئيسين الصيني والأمريكي لاتفاق في قمة مجموعة العشرين الشهر المقبل، فإن الجو العام في واشنطن أصبح أكثر قتامًة اتجاه الصين عن العام الماضي. 

كان مخطط الصين في صعودها للقمة العالمية يسير وفق المرسوم له، لكن انتخاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قلب سياسة واشنطن الخارجية رأسًا على عقب، بعدما قدمت إدارة الرئيس السابق باراك أوباما تسهيلات اقتصادية للصين

وكان تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية أشار إلى أن الخسائر التي ترتبت على شركة جوجل قد تبدو أقل من خسائر هواوي، لأنها مستبعدة من السوق الصينية، وأضاف بأن الاعتماد المتبادل بين أجهزة الاتصالات الصينية والبرمجيات الأمريكية يظهر بوضوح مدى ضعف كل منهما، وكيف أنه من المستحيل لأي منهما أن يحقق السيادة العالمية الكاملة، لذلك فإن الحرب بين القطبين العالميين ليست بهدف السيطرة على التكنولوجيا، ولكن بهدف معرفة من سيصبح سيد العالم.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

أمريكا "الحمائية" ونسخة الصين من الأسواق المفتوحة.. العولمة إذ ترتبك

الاقتصاد العالمي يتعافى من جديد.. لكن ليس لفترة طويلة!