08-يوليو-2021

فوتوغرافيا لـ غطفان غنوم/ سوريا

1

 

أسمعه يضاحكُ آخرين بين تلالٍ تتقاذف صدى الضحك فأدركُ أنه ضحكٌ قديم، فيما صوته لم يكفَّ عن الدوران بين المرتفعات إلا كي تسمعه الأذن التي يريدها.

ها أنذا أسمعه، وحين أسمعه أناديه، وحين أناديه يردّ باسمي فورًا، لكنّ هذا الذي ينادي عليّ الآن ليس صوته القديم.

هل يأكل الصدى جزءًا من نبرة الصوت؟ أم لعلّ أصواتَ الغائبين تنزل غريبةً على مسامعنا لأن وقتَ الغياب ومسافاته يجعلان الأحرف أثقل وزنًا، والكلمات أبطأ مما يجب؟

أراه مقبلًا فأركض نحوه في زمن سابق، وبين عناق وآخر أرى وجهه أصغر من عمره عند الاعتقال، لكنّ خطّين من الشيب يلونان صدغيه يبدوان رسالةً تقول لكل من يهمهم أمرُ الغائب: لا تقبلوا توقف الزمن على وجه من تُحبّون عند الاختفاء، ولا حتى عند الموت، فكما ينبغي أن نتخيّل الغائبين يكبرون ويتغضنون، علينا أن نتخيل أجدادنا الذين بلغوا من الموت قرونًا باتوا يتنافسون أخيرًا في مراتب الآلهة.

على تلة لا أعرف كيف وصلتها، أجالسه وأبكي من صوته الغريب، صوته المنهك مثل صدى لم يسمعه أحد. وأبكي من ملابسه القديمة التي لا تزال تلازمه كجلده، مختصرةً معنى الفقر في عبارة: ملبس واحد للنوم والخروج. وأبكي لأن خيالي الذي طالما خلته رحمًا لصور الغُيّاب يتمزّق من إجهاضها في هذا اللقاء.

 

2

 

يشرب من زجاجةٍ

فأقول: "اسقني من خمركَ"

يقول: "ليس خمرًا

مجرد زجاجة فارغة

التقطتها وأنتِ تعانقينني

جمعتُ فيها

ما استطعتُ من قطرات دمعكِ".

 

"ولماذا تشرب الدمع؟".

 

"لعهديَ مع نفسي

على تذوّق كل ألمٍ تسبّبت فيه

وهذه حصتي الأولى منكِ".

 

"لماذا تكبر الآن أكثر؟

لماذا يزداد الشيب

في رأسك ووجهك؟

وما الذي يجعل الغضون

تتكاثر بهذه السرعة؟

أبسبب شرب الدمع؟".

 

"لا،

لأكون على صورتي حينما يطلقون سراحي

لتري الآن ما سوف ترينه لاحقًا

فبالأسى ندرّب القلوب على الفرح".

 

"إذًا لم تخرج بعد

وهذه المرتفعات من نسج خيالي؟".

 

"لم أخرج،

لا أزال في زنزانتي

وهذه التي تبدو لكِ مرتفعاتٍ

هي صرخاتي التي راكمَتْها الأيام

من حولي".

 

"هل تعني أنني عندكَ

أنا التي تظنّ أنكَ عندها؟

وهل أنا في خيالكَ

فيما أظنّك أنتَ في خيالي؟".

 

"لسنا أحدًا

لا خيالًا ولا حقيقةً

ليكون واحد منا عند الآخر.

لعلنا مجرد هذيان نسيَ نفسه

لشدّة ما تطرف في الجنون

فصاغ الحكاية

ليعيد إنشاء نفسه وحسب"

 

"توقّف.. توقّف..

أعرف أنك ستقول

ما تقوله دائمًا

عند هذا الحدّ:

نحن الذين صنَعَا غيابًا

طوال الوقت

لا بد للغياب من صُنْعِنا أيضًا".

 

اقرأ/ي أيضًا:

حربٌ تكتب يومياتها حربٌ أخرى

تحقيقٌ استقصائيٌّ حول الريح

دلالات: