25-أغسطس-2019

أدولفو ألونسو آريس/ إسبانيا

قالت "اكتب كي لا تكون وحيدًا" وناولتني قطعة من راحة الحلقوم، رَتبت على كتفي وابتسمت كأنما نَفِذَت إلى روحي واطلعت على سِجالاتها، ثم أكملت "ليس لك مهرب سواها" ثم غادرتني.

أدهشني حقًا إدراكها الواضح بهروبي، فأنا لم تنضب لدي الكلمات، ولا تلاشت من محصلتي الحياتية الأفكار، بل تزاحمت حتى صارت تفصح عن نفسها كما هي، دون مواراة لأي عورة ضعف أو هشاشة، هكذا دون مبالاة، وهو حالٌ مستجد عليّ وغريب.

ولأنني لم أعتد على هذا النوع من الوضوح والسفور، وَجمت! ما أشد خوفي... هل من سيتفهمه؟ ذلك إن الألم إذا اشتد لم يتوارَ، وإذا الروح تشظت لم تتجمل، بل شرعت بالصراخ المؤذي لكل سامعيها، إنه صوت الأنين العالي، المرهق، أتعرفون هذا النوع من الأنين؟ الذي لا لا دموع فيه، كأنه نوتة مستمرة من الصوت المجروح المألوم المخنوق، يُنتزع من متتاليات الشهيق، فعلٌ ينم عن العجز الفعلي والقهر المتجذر داخليًا... فعلٌ يدك كل قُوة مدّعاة، إنها لحظة الإستسلام والتسليم التي تتحطم فيها كل محاولات التغاضي والمكابرة، قد يكون أعلى درجات الحزن، ما أدراني؟ لنقل أنه طقس يُلملم الإنسان فيه كل انكساراته وهزائمه وأوجاعه، فيصّفُها أمامه يبكيها واحدة تلو الأخرى، حتى تقضي عليه.

هل رأيتم لماذا أهرب؟ لأنني أعلم أنني كلما مضيتُ قُدمًا في الكتابة، انزلقت! فما أشد بؤسي وما أضيق خياراتي.

حركت كلماتها شهوة الكتابة لدي، وأنا الذي أمتنع تعففًا وأستعين بالله تصبرًا، وأشيحُ بوجهي عن كل فتنة قد تؤزني إليها أزًا، قد انهارت في هذه اللحظة محاولاتي. أرجوكم! لتعتبروا اليوم هذه السطور نداء استغاثة، نعم لا تترددوا في مد يد العون لي دون أن تفصحوا عن ذلك، لا تتصدقوا علي جهارةً، لا تشعروني بشفقتكم تجاهي، فأنا امرؤ حقير مُكابر حتى في أعتى لحظات انكساراتي.

لكن، لن أمانع أن يهديني أحدكم قالب شوكولاته، ولا سطراً شعريًّا هاربًا يثير الدفء داخلي، لن أمانع بأن يحضنني أحدكم، أو أن يمسك بيدي الباردة ويهمس في أذني بـ"أنه لا بأس، سيمضي يومًا كل هذا" ولن أمانع أن أسمع هذا الكلام بكل حب واندهاش كأنني أسمعه لتوي. لن أتأفأف إذا أرسل أحدكم لي رسالة بسيطة يتمنى لي بها صباحاً مشرقاً، أو أن يرسل لي رابطاً لأغنية من أغاني فيروز، حبذا لو كانت "حبيتك"، أو أغنية أخرى لزياد الرحباني "بحبك بلا وشي".

ما أطول لائحتي!! كأنها لن تنتهي...لكنني سأكون بخير لو...

تبدو أماني أنثوية؟ أو إنسانية؟ اختلطت عليّ الأمور، ربما هو الجانب الأنثوي من رجولتي؛ ما أشد حنقي على مفاهيم مجتمعاتنا، كيف استطاعوا تأصيل المفاهيم المشوهة في عقولنا؟ ذلك أن الحياة علمتني بأن الرجال تبكي وقد تتفوق على النساء في هذا، وأن الرجال تضعف وتستغيث، ويوقف نزفها تفصيل حب بسيط؛ أنا اليوم –يا فاعلي الخير المُنتَظَرين- أكتب بصفتي البشرية لا النوعية، انسانٌ يطلب المساعدة وحسب، قبل لحظة بائسة قد تغازل خيالاته الشاذة.

إن هذا النص مثير للشفقة وللحنق في الوقت ذاته، على نفسي ومنها... ألا تبّت يداي عن هذه الكتابة الآثمة؟

هذا النص مصيره للإعدام، لا مجال! كجميع تلك السطور التي أعدمتها آنفًا و...،

لكن أخبريني "لماذا لم يجهز بعد فنجان القهوة؟ لا تنسي راحة الحلقوم، فحتى الكتابة المُرّة تحتاج إلى شيء حلو يستدعي كل نصوص النّدب التي مرت عليها ذاكرتي يومًا...".

لا مهرب لي من الكتابة... أجل، أليست مصدر رزقي!

 

اقرأ/ي أيضًا:

ذئبة قطبية

كلبة تشيبو.. كلبة اللذة الملكية

دلالات: