21-أغسطس-2019

مقطع من لوحة لـ غويا

التجمعات الكلبيّة التي عاصرتها في المدينة الحاضنة لطفولتي وشبابي كانت تشبه الكثير من التجمعات البشرية أو النباتية الأخرى، بما فيها من قوانين وعرف تحكم قبضتها على الكائنات المنتمية لها، كالأكل والشرب والتجمع والتواصل وحالات الثأر، وبعض الحروب الصغيرة والنفي والتقوقع على الذات أو الانفتاح الفردي الخفي المكلف جدًا.

أستطيع القول: إنّ عالم الكلاب مليءٌ بنا، كما هو عالمنا البشري مليءٌ بها، بحيث تتماهى الحدود وتنهار بيننا!

لكن ما مسح الغبار عن نافذة الاهتمام لديَّ كانت مجموعة كلاب شاردة ضارية آكلة بقايا المنتوج البشري من الحاويات المترامية في أطراف المحالِّ والبيوت في الأحياء الأحسن حالًا من حالنا، مجموعة مؤلفة من قائد وحشي أشعث الشعر ذي أنياب متراكمة في فم أشبه بفوهة بركان ثائر قديم وجاف الحمم، يرمي سطوته على ستة كلاب لديها مهامٌ متفرقة كالاستطلاع الليلي، استكشاف وحماية الموارد الجديدة، تنظيم أوقات الزيارة والنباح، إضافة إلى نشر(البروبوغاندا) المتمثلة بالقوة والرعب بين من يحاول أن يقترب أو يتجرأ على التفكير باختراق هذه المنظومة الكلبية، وهذه المساحات التي تبدو مطوّبة باسمها.

ولكثرة المجموعات الكلبية الشاردة والتنقّل اليومي الليلي كان يحدث بعض الاختراقات، كأن يعشق كلبٌ كلبةً من إحدى الطبقات المخملية، أو يضلّ أخرٌ ويفترق عن مجموعته، وفي طريق البحث عن شركائه قد يواجه مجموعة أخرى في أماكن سيطرتها وهنا تبدأ المعركة غير المتكافئة طبقيًا وربّما عدديًا، وقد تغلب مجموعة لكثرة أفرادها، بحكم "الكثرة تغلب الشجاعة".

معركة الولوج

ملّ من الانصياع وسياسة التقشف، وقرر التحرر من سطوة القائد باحثًا عن ملجأ بمقومات مغرية، تكمن فيه الحرية والماء والعظام اللذيذة المنتهية ببقايا اللحم، وأخذ يشمّ الزوايا وجذوع الأشجار وكلَّ ما يدل على أن كلبةً قد مرت من هنا، وتركت خلفها سائلها وبصمة رائحتها المميزة، حيث السائل يكون رسالة مشفرة لا يفهمها إلا من لديه أنف ودماغ كلب، فهي بمثابة البوصلة للسفينة الضالة في بحر النفايات.

التقطت أجهزة الاستشعار الشميّ موجات متعددة قادمة من بعدٍ، قدرتْ مسافته بأقل من ست دقائق هرولة، وأطلقت إنذار الهروب إلى الأمام، ولكنّ الأمامَ لم يكن أيضًا بخالٍ، بل محفوف بالمخاطرة، لكن قدسية هذا الإمام، جعلت العدو تجاهه أمرًا مقدّسًا أيضًا.

أراهم يصنعون حلقةً ليست مفرغة، ففي الوسط يتربع الكلب الهارب الطموح، لا مقدمات ولا عروض ولا حتى تنازلات، النزال فقط هو الفاصل، ولأول مرة أتعلم درسًا مخالفًا للأمثال، حيث من قال الكثرة تغلب الشجاعة، كان بحاجة لمشاهدة هذه المعركة الضروس، وكيف أن القلب العاشق بطح ما لا يقل عن سبعة كلاب، كانوا ينعتوهم بأنهم حماة الحاوية، وكاسري الأنوف. والميدان شهد لهم.

خرج مدجج الجروح، مغمور الدماء، يشتمُّ بقعة بنية ملاصقة للنبات على جانب الطريق، استهجنتُ الابتسامة على وجهه، فكيف له الابتسام بعد هذه المحنة، وعندها أيقنتُ أنها البوصلة السحرية، التقطها وأخد يركض مثل ما يملي عليه جهاز فك الشيفرة وتحديد المكان.

كلبة تشيبو

من الظواهر البشرية الممتعة التي لازمها شباب عصر ما قبل الإنترنت الصيد، وأقصد صيد كلَّ ما يمكن صيده وتجميعه وبيعه، كصيد الحساسين ومغامراتها في الفجر ونصب الفخاخ والشباك وتعلم لغتهم والزقزقة البشرية المشابهة لصفيرها، استطيع نعتها بعملية الجذب البشري للطيور المرهفة، أيضًا اقتناء الحمام، وتهجينه وتدريبه وتطيره ليلًا واصطناع الخليط، والخليط مصطلح لمعركة جوية ليلية يعقدها مالكو الحمام في ليالي الصيف، حيثُ يرسل كلٌّ منهم مجموعته من الحمام في الأفق فيجتمع كل الحمام بطريقة ما في نقطة ما وفي زمن محدد، وفي الجو تبدأ معركة التعارف والتواصل بينهم، فمن الذكور ما يجذب الإناث ومن الإناث ما يسرق قلب الذكور، وبعد مدة ترجع أسراب الحمام إلى منزلها ومعها من السبايا أو العشاق ما يكفي لاقتتالٍ دامٍ بين مالكي الحمام لمدة لا تقل عن شهور، فكل مالكٍ يبحثُ عن طيره المسلوب أو العاشق المخدوع، وتتم عملية التبادل الطيريّ أو ما يقابل الطير من قطع النقد وهكذا.

أما تشيبو فقد تفرد بظاهرة لا مثيل لها، صاحب الكلبة المهفهفة، كونتيسة الكلاب الضالة الباحثة عن الخليلة، الحلم لكل كلب مشرّد يطمح بالحب وإنجاب الجراء، نعم قد ربّاها على يده، فطورها من الحليب البقري المصفّى، أكلها المفضل العظام المقرمشة الصغيرة، نشاطها النوم والقيام بالرحلة اليومية مع تشيبو.

مشهد سابق (رحلة الشيفرة)

الدراجة القرمزية والكلبة وتشيبو في الرحلة اليومية التي قد تم تحديد مسارها بشكل دقيق، قائم على الرصد اليومي وإحصاء عدد الكلاب المشردة، وأماكن تجمعها وانتشارها، حتى أماكن تبولها وهذه النقطة الأهم التي حرص تشيبو على تحديدها بحرفة الصياد، وبلغة تواصل ما تم التدريب عليها منذ الصغر حيث تطلق سائلها السحري في الأماكن المحددة مسبقًا، فيكون السائل كشيفرة تتبعها الكلاب لوصول الكونتيسة في الليل، أي عملية صيد مؤتمتة ومحكمة بخوارزمية السائل وفكر تشيبو التجاري، وعند الساعة الحادية عشرة ليلًا تنبح الكلبة بأجمل الترانيم الشوقية، بأصوات شبقة، وتدخل حجرها للنوم، فتأتي الكلاب أرتالًا وتباعًا، ولعابها يشرُّ ويشرُّ وتشيبو يستقبلها أجمل استقبال بأكياس من الخيش، مخزناً إياها في باحة المنزل، يروضها قليلًا، ولكن ليس أي ترويض، يعصم أعينها لمدة لا تقل عن شهر، ويحصرها في غرفٍ صغيرة معتمة كليًا، لا تلمح أحدًا سواه، يقطع آذانها ويخلطها بسائل الكونتيسة والفانيلا ويطعمها ذلك، مما يسبب التوحش وفصاماً في الشخصية، ومهمة الكلبة التراقص أمام الكلاب مرة في الأسبوع،  فتلهث  لذةً.

قبل أيام الحصاد يخرجها للنور، تراها كحبات الذرة في مقلاة، ويذهب بهم إلى أصحاب المصالح الزراعية، يعرض شراستها للبيع وتستلم مهمتها الجديدة في حراسة القمح والأدوات الحديدية، وتبقى كلبة تشيبو الحلم الوردي الذي خدعها، ولم يحرر رغبتها ولم يجلب لها الجراء.

يقول كلبٌ: ما الخذلانُ إلا رائحةٌ/ تشمّها/ تكونُ في وادٍ/ فتمسي بوادٍ.

أمّا أنا الشاهدُ على تلك الانتصارات والهزائم واللذات والانكسارات، فأقول: يا للعالم الذي يتناسخُ، فكم من كلبٍ، وكم من كلبةٍ قد تراهُ في نفسٍ آدميةٍ أو في روح نبات، يعلق بك وأنت تصنعُ لحظة سيرانك اليومية!

 

اقرأ/ي أيضًا:

خطوة أخرى عن الرحيل

سأنقذ نفسي وأغني حتى الصباح