27-أبريل-2021

أناس على الشاطئ (Getty)

لا يغرق الناس إلا في البحر. يقال مجازًا إنهم يغرقون في ديونهم، يغرقون في مشاكلهم، أو يغرقون في الأيام. لكن أحدًا لا يغرق في الواقع إلا في البحر. حتى النهر يغرق، في النهاية، في البحر. حتى العالم كله، في نهاية الأمر، سيغرق، عندما يخرج البحر ليضع حدًا للمأساة، سيبتلع كل نظريات الفلسفة السياسية، والحواسيب الضخمة التي تنظّم سلامة انتقال المعاملات المصرفية، وسيموت أبطال المسلسلات التي كسّرت الرايتينغ ومعدلات المشاهدة. ليست خسارة أن تنتهي الخطابات الرتيبة وبطولات الغولف الساذجة في أي حال. على الأرجح سيبقى البعوض فقط لأنه قادر على التحليق فوق الماء لمستويات عالية جدًا. كل ما نتمناه هو أن يحدث كل شيء قبل أن يتمكن بعض الأثرياء التفه مِن الانتقال إلى كوكب آخر.

يركب الناس البحر هاربين لأن الغرق وجودي. لا يعرفه إلا الذي يغرق. لأن الفهم سيبقى متأخرًا عن 17 ألف صوتًا

الطوفان يحدث من هناك، من تلك اللوحة الرهيبة التي تبعث على التنهد عن بُعد. مشكلة البحر أنه ليس جسرًا، وأنه لا يستطيع الإجابة على إجابات الناظرين إليه كما لو أنه يملك حلولًا لمشاكلهم، وأنه عندما تتكسر القوارب الصغيرة، يصير وحشًا. حاول الكثيرون أن يفهموا ما الذي يدفع أشخاصًا إلى ركوب البحر، في قوارب ضعيفة، أقل وزنًا من أجسادهم المرهقة، قوارب لن يكتب لها الصمود بوجه العواصف. ورغم أنهم حاولوا وبذلوا جهدًا، منذ 7 سنوات غرق حتى اليوم أكثر من 17 ألف لاجئًا إلى البحر، ولم يفهم أحد بعد. ولا أحد يمكنه أن يفهم، لأن الإجابات ليست كافية. لأن الغرق وجودي. لا يعرفه إلا الذي يغرق. لأن الفهم سيبقى متأخرًا عن 17 ألف صوتًا. 

اقرأ/ي أيضًا: حاملو مفتاح النبيذ

ليس الغرق شيئًا يروى في قصة. إنه صوت يتكرر. شخص يبتلع صوته بنفسه. نداء استغاثة في عرض البحر، نعرف أنه حدث، وأننا لم نسمع، وأنه سيتكرر، وأننا لن نكون هناك، ولن نسمع أيضًا.  يقال إن الذين يهاجرون في البحر لم يتبق لديهم أي شيء يخسرونه. ويثبت هذا لمن يهمه أن يثبت شيئًا، أنه حتى المتعاطفون، لا يعتبرون حياة الغارقين ذات قيمة. ندير وجوهنا عن الصور، لأن فقدنا ذلك الشعور بالصدمة، خاصةً في بلادنا، التي تغرق هي أيضًا، مجازًا ربما، وربما فعلًا، فالغارقين كانوا بيننا. ما نفعله هو أننا نبتلع أصواتنا بدورنا، وندفنها هناك في مكان عميق بداخلنا، لكي لا تطفو الجثث العائمة أمامنا.

بعد عدة أعوام، وكما في الأفلام، لن يكون هناك قضايا هامة في الكوكب. ستكون هناك قضية واحدة، أي تغيّر حرارة الأرض، وما يعرف بالتغيّر المناخي. وهو الأمر الذي يجده غالبية البشر حتى الآن أمرًا مملًا، وغير قابل للتصديق. كل في الأمر أنهم لا يبذلون جهدًا كافيًا للتصديق، لا لشيء سوى أنهم، وفي مكان عميق بداخلهم، يعتقدون أن خرّاب الأرض لن يحدث في زمنهم، وأنه سيكون بعيدًا. لماذا يتكبد الإنسان كل هذا العناء، ويؤجل قضاياه الحالية، للتفكير بمستقبل لن يكون مستقبلًا، طالمًا أنه لن يكون موجودًا فيه. وكما يقول هواة الأبوكاليبس آنذاك لن ينفع الندم. والندم ليس شعورًا يعود بمنفعة في أي حال. لا يعني هذا أنه يمكننا تخريب العالم بضمير مرتاح، فمن دون أطر ديموقراطية حقيقية، نحن لا نملك أي دور في شيء. نسلّى أنفسنا بالجاهزية للنضال وبأننا أحرار، ولكن من دون أي إطار واحد، لحربٍ واحدة، ذات معنى أو مغزى. وقد لقن وباء كورونا درسًا قاسيًا للمفرطين في تقدّيس الإدارة الحرّة كما قرأوا عنها. هناك أشياء فعلًا تحدث لمجرد أن تحدث، وليس ضروريًا أن تحدث. ولسوء الحظ قضايا العالم بدأت بالانحسار فعلًا. في أيامنا هذه، يبدو أن ثمة قضيتين، أو ثلاثة، وفي أحسن الأحوال كل القضايا الأخرى قابلة لإعادة التدوير. الهجرة هي إحدى القضايا بكل تأكيد. نتحدث عن دول منهوبة ومحتلة، يعرف سكانها أن عدد كبير من أقرانهم في الجانب الآخر من العالم، يتقاضون مبالغًا شهرية قد تفوق ما يجنونه في سنوات. وهناك نقاش تافه ومستمر، عن الحروب، ومن يتسبب بالحروب، وعن أثر الاستعمار، وعن دور العولمة، وهو نقاش في حال تفاقمه على هذا النحو المريع، سيتخذ طابعًا ويكيبيديائيًا، لن يكون مسليًا على الإطلاق، خاصة بالنسبة لامرأة من هلع وتعب تحارب الموج مع أطفالها.

يسود أحيانًا خطاب لطيف عن التنوع الثقافي ودوره في اثراء الحياة. لكن ليس حياة جميع البشر هي المقصودة بالحياة طبعًا

وبالفعل يبذل أكاديميو اليمين واليسار على السواء جهودًا في تفسير أسباب الهجرة. يخرج اليمين بخلاصات عن الأعباء التي تسببها الهجرة على الدولة ويخرج اليسار بخلاصات عن التنوع الثقافي والدور الاقتصادي للمهاجرين، وأحيانًا يكون لطيفًا هذا اليسار، فينتقد فرص "جاك" في الحصول على عمل، رغم أن سيرته الذاتية ليست أفضل من سيرة "طه" أو سيرة "عبد الرحمن". وهناك أشخاص ممن ينمقون دعواتهم إلى الهجرة، فيؤكدون على أن خلاص الغرب، يكمن في التزامه الأخلاقي تجاه مسألة التنوع الثقافي. ويبدو الأمر جميلًا دائمًا من الناحية النظرية، حتى إذا حوّلنا المسألة إلى أرقام. مقابل غرق 17 ألف لاجئ، هناك عشرات الآلاف ممن نجحوا في الوصول. وليست المقارنة بين اليسار واليمين عادلة، وليس الهدف من كل هذا هو الهدم، أو الوصول إلى خلاصة مفادها أن كل النظريات في النهاية هي هراء. فهي كذلك فعلًا بالنسبة لشخص يغرق، ورأينا ليس هامًا. بعد أعوام، سيصير الأمر أشد وضوحًا، أي أشد وقاحة. الهجرة هي نضال ضدّ عدم المساواة، وهذا سيعني أن الثروة توزعت، وأنه يتوجب علينا القبول بالغرق، أو الموت من الجوع، أو بالصور التذكارية التي يضحك فيها السياسيون رغم أن المساكين يتألمون من ربطات أعناقهم.

اقرأ/ي أيضًا: العودة إلى اللغة الأيقونية

يسود أحيانًا خطاب لطيف عن التنوع الثقافي ودوره في اثراء الحياة. لكن ليس حياة جميع البشر هي المقصودة بالحياة طبعًا. لذلك، وهذا ما يفسّره عالم الاقتصاد الكندي جيل باكيه بالقول إن المستوى الأفضل للتنوع ليس بالضرورة أن يكون الحد الأقصى من التنوع. يمكن الاكتفاء بحد معين، من هذا "التنوع". يمكن رمي كل شيء آخر في البحر. في النهاية لا يمكن الغرق إلا في البحر.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عن الفنون في زمن ناطحات السّحاب

كلهم على حق