21-أبريل-2021

مدينة التكنولوجيا الذكية مع شبكة اتصالات (Getty)

آخر ما كتبه الشاعر والناقد الأمريكي الراحل ويستان أودن كتيّب صغير الحجم، شديد الكثافة، سمّاه "محنة الشاعر في أزمنة المدن". ويعرض فيه، لا لأزمة الشاعر وحده في الأزمنة الحديثة التي يسميها أزمنة المدن بل للفنون كلها، ومن ثمّ للكاتب بصفة عامة، حتى لكأن المدينة الحديثة، الصناعية في البداية، ومدينة الاتصالات المعاصرة والإنترنت والعقول الالكترونية تاليًا، قلّصت من مساحة الشعر والفنون، ومن مساحة الكتابة نفسها، على غرار ما سبق وفعلته الآلة ضد العمل اليدوي الملغى أو التافه. فلم تعد الكتابة مهنةً مشتهاة، بل غدتْ شبيهةً بمهنة من لا مهنة له. وغاب ذاك الافتتان السابق بفكرة العمل الفني وأبهته ودوره. لم يعد العمل التشكيلي مثلًا صاحب سطوة كبيرة، كما كانت تفعله لوحة لرامبرانت أو لغويا أو لفيلاسكيز، وحتى لبيكاسو... بل صارت تقنيات السّعر والتسويق الاعلامي وسوق الشراء تقنيات الغاليري العارضة هي التي تتحكم باللوحة. وصار يلحق بالمرء حَرَجٌ من أن توضع كلمة "كاتب" في خانة المهنة من جواز سفره... كما أصبحت الفنون هوايات خاصة "لا ضرر منها"، وربما مارسها وتذوّقها مجموعة من بشر "كسالى وطفيليين"، وهم أبعد ما يكون عن مراكز الفعل والتخطيط وصنع المستقبل في الحياة المعاصرة.

كأن المدينة الحديثة، الصناعية في البداية، ومدينة الاتصالات المعاصرة، قلّصت من مساحة الشعر والفنون، ومن مساحة الكتابة نفسها

أما أن تجمع "الجميل" و"المفيد" معًا، على غرار ما كان يحصل في السابق، فأمر من الصعوبة بمكان. فلا بدّ من الاختيار: فإما "الجميل" المهمّش الصّعب والخاص واللّاشعبي، وإمّا "المفيد" الّذي يتمّ تنفيذه بعيدًا عن قلق الفن والكتابة معًا، وعن المساحة "الشعبية" وكأنما تحققت بشكل فظّ، مقولة بريشت: الشّبع أولًا، ثم الأخلاق.

اقرأ/ي أيضًا: "كلوب هاوس" بئر الأصوات

من المهم الإشارة إلى أن التطوّرات التقنية والاستهلاكية وثورة الاتصالات كوّنت مساحات بشرية جديدة، لا تنضوي تحت خانة التجمعات البشرية المعروفة سابقًا. لقد ولد ما سبق وأطلق عليه الفيلسوف الدنماركي كيركغارد اسم "العامة"، وهم غير محددين بمكان أو زمان، بل ينتمون إلى وسائل الاتصال، ويوجدون حيث تصل إليهم هذه الوسائل. العامة "Public"بهذا المفهوم الجديد "ليسوا بشعب أو جيل، ولا هم مجتمع أو جماعة، ولا هم بأفراد متميزين، إنهم أي العامة عملاق تجريديّ عقيم، بمعنى أنه كل شيء ولا شيء في آن. ويختلفون عن مفهوم "الجماعة" القديم، كما يختلفون عن مفهوم "الرعاع"، وإليهم تتوجه إشارات الاتصالات، وعليهم يعوّل في التسويق والاستهلاك، وهم موضوع الدعاية والجذب الإعلاني الخطير والمؤثر.

إن هذه "العامة" عنصر فاعل في توجهات الفنون والكتابة، مثلما هي عنصر فاعل في الاستهلاك. ومن حيث هي كتلة غامضة ومبددة تنتشر على كل الرقعة الارضية، فإن الشاعر أو الفنان أو الكاتب، حيالها، يتوقف ليسأل نفسه: لمن أتوجّه؟ وتلك واحدة من صعوبات العمل الفني اليوم. وهذه الصعوبات، كما يراها ويستان أودن، تتوزّع على الأوجه التالية:

أولًا: فقدان الثقة بالكمال وفكرة الخلود والاعمال التي تفْنى... وهي الفكرة التي كانت تسيطر على شعراء وفناني الماضي وكتابه. إنهم جميعًا يرغبون في قهر الموت والزمن وتراودهم فكرة البقاء بعد موتهم. إن هوميروس ومايكل أنجلو وغوته وشكسبير، هم من هذا القبيل، أبناء الخلود، يُسمّون. وذلك ما ينتمي لعصر مضى وانقضى ويكاد يصبح اليوم أمرًا مستغربًا أو مثيرًا للسؤال، إن لم يكن للسخرية: المجد، الخلود، العظمة، الكمال... أصبحت كلمات هي أقرب ما تكون لمضيعة الوقت، والبسيط والارتجالي، المباشر والاستهلاكي أجدى... لقد سقطت الكلمات عن عروشها الضخمة القديمة وطحنتها سوق الاستهلاك اليومي.

ثانيًا: فقدان الثقة في مغزى الظواهر الحسّية وأهميتها. ذلك ما يلخصه الشاعر والرسام البريطاني وليم بليك أجمل تمثيل، فقد كتب ملاحظة عن التغيير الذي طرأ على موقف الانسان من الطبيعة جاء فيها "إن البعض يرى الشمس كقرص ذهبي مدوّر بحجم قطعة النقد، غير أنه يراها أيضًا كقرص خبز القربان المقدّس مثلًا الذي يعلن قدسيته مناديًا: مقدس، مقدس، مقدس". وهذه الثنائية في النظر إلى الطبيعة، كان يتبناها نيوتن وأتباعه، إلا أن بليك لا يساوي بين النظرتين، ويعتبر الظواهر الحسية وكرًا للشيطان. فالمهم هو الرمز والتعليل... والحسّ خداع.

العامة عملاق تجريديّ عقيم، بمعنى أنه كل شيء ولا شيء في آن. إليهم تتوجه إشارات الاتصالات، وعليهم يعوّل في التسويق والاستهلاك

ثالثًا: فقدان الإيمان "بالنموذج" في عالم متغيّر بسرعة هائلة، وكان في الماضي بطيئًا. إن التسارع الذي لا يمكن تصوره، من شدته وفرط حيويته، أضاف قيمة جديدة على المسائل والأفكار والأشياء. كان السابقون يعتقدون بأنهم إنما يعملون لمئات السنين، إن لم يكن لآلاف السنين المقبلة. وكانت التغيرات التي تحصل إنما تحصل ببطء، مما يرسخ فكرة العمل لأجيال كثيرة، وهي فكرة لم تعد اليوم صالحة مثلما كانت بالأمس. إن تسارع التغييرات ربط مفهوم العمل والفن والكتابة باللحظة، أكثر مما ربط هذه المسائل بالأبدية، أو حتى بالمستقبل القريب. وقد خسر الشعراء والحالمون، بذلك، جزءًا من أحلامهم.

اقرأ/ي أيضًا: الإعلام كأداة ابتزاز للديمقراطية

رابعًا: اختفاء أو انحسار المفهوم التقليدي لعبارة العالم العام، كمجال للكشف عن الأعمال الشخصية. من هو البطل اليوم، الإنسان أم الآلة؟ العضلات أم العقول الإلكترونية؟ كان في الإمكان القول، في الماضي مثلًا، إن مار جرجس قتل التنين الخرافي والأسطوري بطعنة رمح محددة سددها بيمينه إلى غر التنين، وبالتالي تصور طرفين في بطولة محددة: الطاعن والمطعون. اما اليوم، فبالإمكان زرع عبوّة ناسفة مجهولة الصانع والواضع والمفجّر، في أصل أي تنين مشابه، أو أي تمثال أو بناء، وتفجير الصاعق عن بعد، بكبسة زرّ مستور، فمن هو البطل اليوم؟ العبوّة أم صانعها أم الضاغط على الزر المستور؟

وكان في الإمكان القول في الماضي إن الفرعون بنفسه أمر آلاف العمال بحفر ترعة من الترع، محددة ومعروفة، وبسواعد محسوسة، أو أمر العمال بتشييد الأهرامات، أو ما يشبه ذلك. فالفرعون حاضر كشخص آمر معروف، وهو بذلك بطل الأهرامات... أو السدود أو سواها. أما اليوم فما الذي يحرّك الجرافات الضخمة والحفارات الهائلة، وما الذي يصنع الصروح ويجفف البحار ويطلق الصواريخ والمركبات الفضائية نحو الكواكب والأجرام والأفلاك، من هو؟ الرئيس أم العلماء المستترون في مختبراتهم، أمام آلاتهم المعقدة وشاشاتهم الحساسة العجيبة؟ من هو البطل اليوم، الشخص أم الفكرة؟ الفكرة أم الآلة؟

أليست هذه المسائل وسواها مدعاة للتأمل في "محنة الشاعر في أزمنة المدن"؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

أهلًا بك في عالم الرقابة والعقاب

"استقطاب العقل الجمعي".. كيف تؤثر الحشود على أفكارنا وسلوكنا؟