20-مايو-2021

مكتبة سمير منصور في غزة (تويتر)

فماذا تظنون إذًا؟ بالطبع سيكون بين ضحايا غزة كتب. وعلى الصفحات المدماة سنعثر على بصمات أصابع أو شعرات صغيرة من أهداب قرّاء لا تختلف مصائرهم عما يجري للمدينة ومكتباتها.

منذ 1948 فُرض على فلسطين أن تغدو علاقاتها مع الكتب قائمة على التهريب. وإن انتهى ذلك في كثير من أجزائها لكنه لا يزال مستمرًّا في غزة

حين تُرينا الصور أن أشلاء الصفحات ونتف الأغلفة المتناثرة فوق الأنقاض تحمل عناوين كتب غسان كنفاني، سيدرك القلب أنه في عزّ المجزرة يواجه رسائل، ولعل أكثر ما تحبّ أرض فلسطين أن تحكيه معنا هو الكلام الذي تقوله عناوين أعمال كنفاني.

اقرأ/ي أيضًا: في أشياء القراءة والكتب

تصعد إلى المشهد صورة مزدوجة: واجهة مكتبة سمير منصور قبل وبعد استهدافها.

بين الصورتين نعرف أن الكتب ليست مجرد أوراق تُجمع بين غلافين، وليست مجرد كلمات تملأ الصفحات، إنها كبسولات الحياة الأبدية التي قرّرت أن تتجاوز شَرطَي الزمان والمكان، كي تبقى حية على الرفوف، إلى أن تأتي الأيدي القارئة وتأخذ تلك الصفحات وتعبر منها إلى تلك الحياة، فتغدو فعلًا حياة كل من جرب أن الدخول فيها. هكذا هي الكتب في كل مكان. ولأنّ كتب غزة لن تكون استثناء ففي القصف الجاري إشارات حاسمة: الموت المصبوب على رأس المدينة مصبوب على أسرار كتبها.

الكتب لا تنتهي. صُنعت لتكون ضد النهاية. من الطبيعي أن يشغلك الكتاب وقت قراءته، لكن دوره الأهم أن يشغلك بعد قراءته. وحين يحرقون الكتب، أو ينسفونها، فهم عمليًا ينسفون حقَّ القرّاء في الوصول إلى تلك اللحظات التأملية الأقرب إلى تجربة الإشراقات الصوفية.

على واجهة المكتبة، في صورة ما قبل القصف، ما قبل الإعدام، ثمة عناوين كتبٍ وعدَ أناس كثيرون أنفسهم بقراءتها، لأنهم مثل الناس في كل مكان آخر، يعدون أنفسهم بكتب، ويقترحون كتبًا على بعضهم البعض. وبما أن لكل إنسان كتابًا مؤجلًا، حين يقرأه سيشعر كم خسر من الزمن لأنه لم يأت عليه من قبل، ولعله لو قرأ الكتاب في الأيام التي تحدّث فيها الأصدقاء عنه لتساوى معهم، ولهذا يشعر القارئ أمام أصدقائه الذين قرأوا ما لم يقرأه أنه مساوٍ لهم في كل شيء ولا ينقص إلا كتابًا. لنفترض أن لديك صديقًا قرأ دون كيخوته يظل ينصحك به طوال الوقت بينما ترغمك الظروف على أن تؤجل دومًا. حين يأتي اليوم الذي تنهي قراءة الكتاب ستعرف ما أعنيه، إذ تُدرك أنك طوال الوقت كنت تظن أنك متساوٍ مع ذلك الصديق سوى نقصان صغير، نقصان درجة واحدة فقط، هي قراءة دون كيخوته. لنقل الفكرة بلغة الرياضيات: أنتَ صديقك "ناقصْ" دون كيخوته!

الآن لنأخذ هذه الفكرة ذاتها إلى ما هو أكبر وأبعد، إلى المأساوي اللامرئي. ليس إلى الشخص الناقصِ كتابًا أمام صديقه المكتمل بكتابه، بل لنعاين الشخصَ نفسَه أمام واجهة مكتبة غزة التي يتمنى أن يقرأ أكبر قدر ممكن من كتبها، كي نوقن أنهم سلبوه فرصته في أن يحلم باقتناص حصته من الكمال الرابض على رفوف المكتبة.

إذا كانت البيوت والمباني والشوارع والحدائق هي جسد المدينة، فالتشبيه سيظل قاصرًا ولن يشمل المكتبة بالتأكيد، لأنها تنتمي إلى أحلام يقظة المدن. حسنًا، فلننظر إلى الكتب العلمية والفكرية والأدبية والترفيهية... كلّها تحتوي أفكارًا، على اختلافها ضمن خصوصية كل حقل. تلك الأفكار صُنعت من أحلام يقظة مبدعيها، مفكرين كانوا أو مؤرخين أو أدباء، وحين توضع في مكتبةٍ خاصة أو عامة او تجارية فما يحدث هو إنشاء ملتقى حيويّ لهذه الأحلام، ولهذا فإن من يدمّر مكتبة لا يدمر إلا أحلام يقظة المدينة التي تحتويها، ولا يقصف بحمم قذائفه التي تجهز على ورقها وخشب رفوفها غير ساعات الخدر المحتملة في رؤوس قرّاء تغلي من لذة غيبوبة أحلام اليقظة التي يصنعون في داخلها أفكار الحياة وخططها.

ثمة أزمة وصول كتب إلى غزة. سيقولون إن المدينة محاصرة وتستصعب إدخال الغذاء والدواء فما شأن الجائعين والمرضى بهذا الترف القادم من الكتب؟ عجيب! لماذا على الكتب أن تكون أقل شأنًا من الطعام والدواء مع أنها تؤدي الوظائف نفسها؟ لماذا نقابلها بهذا التقليل من قيمتها وهي التي نحتاجها في ساعات يومنا أكثر من ساعات الحاجة إلى الطعام والدواء والشراب؟

يوم 18 أيار/مايو 2021 يوم مجيد للكتب أيضًا، لأنها استطاعت أن تكون مثل الناس وتقتل أيضًا

على كل حال، البلدان التي تشهد حصارًا تنهض فيها صناعة استنساخ الكتب، وهو المخرَج الذي عرفه العراق من قبل، وسوريا اليوم، ولا ننسى أنه منذ 1948 فُرض على فلسطين أن تغدو علاقاتها مع الكتب قائمة على التهريب، وهو وإن انتهى في كثير من أجزائها لكنه لا يزال مستمرًّا في غزة.

اقرأ/ي أيضًا: صفحات لا مرئية

من أجل هذا سيكون على التاريخ أن يضيف يوم 18 أيار/مايو 2021، يوم تدمير مكتبة سمير منصور الغزاوية، إلى سجلات العار الكبرى: إعدام كتب بغداد على يد المغول، ومجازرها زمنَ محاكم التفتيش، ومحارقها زمنَ النازية.

ولكن يوم 18 أيار/مايو 2021 يوم مجيد للكتب أيضًا، لأنها استطاعت أن تكون مثل الناس وتقتل أيضًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

قارئٌ منفي وإستراتيجياته

يد في ألمانيا تقلّب على الشاشة كتابًا في سوريا