26-ديسمبر-2018

مقبرة الكتب لـ محمد شرف/ الكويت

1

المكتبة حكاية لا تنتهي لأنّ بناءها نفسَهُ لا ينتهي.

تقوم حكاية المكتبة، خلافًا لمنطق الحكايات المعتاد، على بدايةٍ تتكرّر دومًا، في حين أنّ الحكايات، وإن كانت تمضي بنا في مسارات متشعّبةٍ، تظلّ تُفضي إلى نهاية. مع المكتبة قدرُكَ البداية، أنت في نقطة البداية، بل أنت بدايةٌ دائمًا.

يعود ذلك إلى منطق المعرفة الذي يبقينا على العتبة الأولى، لأنّ هناك كتابًا جديدًا يحمل أفكارًا وخبرات جديدة، وثانيًا إلى ما تمنحه القراءة من هويّة متجدّدة، تجعل القارئ يبدأ مع كلّ كتاب كما لو أنه وُلد ولادةً ثانية.

شخصيًا نشأتُ في بيئة غير مهتمة بالكتب، كي لا أقول كلامًا يقع في باب الشتيمة. الكتاب الوحيد المتاح، مع أنّه لا يُقرأ، هو القرآن. أتذكّر غرفةً قديمة في بيت الأهل على أحد جُدُرها حقيبةٌ قماشية مطرّزة. طبعًا شاهدتُ مثل هذه الغرفة وجدارها وحقيبتها في بيوت الأقارب والجيران جميعًا، وما أرويه هنا يشبه من يوقّف الزمن عند صورة تكرّرتْ مليون مرّة إلى درجة الشعور بأنّ تلك الصورة، بل تلك الحقيبة ذاتها، هي الساعة التي تضبط توقيت تلك الأيام. المهم؛ سنوات طويلة وأنا أرى والديَّ يُقَبِّلان الحقيبة وهي معلّقة. أحيانًا يرفعني أحدهما لأطبع قُبلتي أيضًا.

حين جاء الزمن الذي أدركتُ فيها محتوى الحقيبة، صارت ذاكرتي تربط الكتب بالقُبل. لنتذكّر أن عموم المسلمين يقبِّلون القرآن قبل القراءة وبعدها. على الرغم من النقد القاسي الذي أحمله الآن لعدم قراءة القرآن في بيوتنا، إلا أنني مسحور بتلك القُبل. وبسبب ذلك أُقبّل كل كتابٍ وأضعه على رأسي قبل وضعه على الرفّ. تلك القبلاتُ الصوفيّة تقول الكثير.

لدي، كما عشاق الكتب كلهم، قصتي الطويلة. لكن اختصارًا سأتحدّث عن واحدٍ من الكتب الأولى التي اشتريتها في حياتي. حدث ذلك في العطلة الصيفية في الصف الثامن، مع ديوان الشاعر إيليّا أبو ماضي الذي كانت قصائده، من بين قصائد الكتب المدرسية كلها، تأخذ مكانها على الفور في محفوظات القلب. أتذكّر الآن قصيدة اسمها "المساء"، نُشرت أبيات منها في كتاب الصف السادس الابتدائي الذي درسه جيلي. لا أنسى مطلعها الذي يقول "السحب تركضُ في الفضاء الرحب ركض الخائفين". خلق هذا البيت عندي علاقةً مع الغيوم، بدأت من فضولي لمعرفة سبب خوفها تصديقًا لزعم الشاعر، لتتحوّل فيما بعد إلى مساحة للتخيّلات.

في تلك الفترة عملتُ صبيًّا في مكتب سفريات، وللصدفة كان مقرّ عملي إلى جوار مكتبة النوري، وهي واحدة من أقدم مكتبات دمشق. في جولاتي الفضولية فيها آنذاك، بين أسماء الكتب والمؤلفين الغامضة، لاح اسم الشاعر الذي أعرفه كدليل في متاهة، فحملته وقبّلته، على عادة الأهل. ظلّلتُ أعود إليه، يومًا تلو يوم، حتى حصلت على أول أجر واشتريته. يمكن تَخيُّل مصير العامل الذي تعوّل أسرته على دعمه في دخل إضافي، حينما يعود إلى البيت حاملًا كتابًا، وأيّ كتاب؟ إنه من ذلك النوع غير الجدير بأنّ يعلّق على الجدار!

في فترة لاحقةٍ، عملت مدرسًا للغة العربية، وخلال سنوات العمل الأولى، في إحدى قرى جبل الشيخ التي احتفظتْ بعزلتها عن العالم، عثرتُ على تلميذ في الصف السابع يكتب شعرًا. لن أقول هنا شيئًا عن دعمه وتشجيعه، فأهمّ ما في الأمر أنني أعطيته نسختي من ذلك الديوان مع حكايتي، ليكون أوّل كتاب في حياته ومكتبته كما كان بالنسبة لي.

جمعتُ كتبًا ومجلاتٍ وصلت إلى بضعة آلاف. ثمة مسألة أساسية في سيرنا مع الكتب وهي الاقتناء. الاقتناء يصبح متعة، أساسها المغامرة والتحدي بلا شك، فعند البحث عن كتاب في متاجر أو بسطات الكتب، والانشغال بسؤال الأصدقاء والمعارف عنه، ثم الحصول عليه، تصبح الحياة الصغيرة كومةً من اللهفات، ولو جمعنا اللهفات التي عشناها في السعي وراء الكتب لتعادلت مع لهفاتنا في السعي المحموم وراء الحب، بل ربما تفوّقت عليها، لكنْ يبدو أن تاريخ الحبّ حافل بالثرثارين، فيما تاريخ القراءة حافل بالصامتين.

على كل حال، من أجل معرفة الكتب التي أحتاج إليها، تعلّمت أن أقرأ أخبار الإصدارات الجديدة في الصحف التي أتابعها وأشتريها، وفي الإحالات المرجعية في الكتب التي أقرأها، وفي جولات الصيد بين بسطات الكتب المستعملة. تعلّمت أيضًا أن أتابع المجلات والدوريات، وهنا لا بدّ من تقديم مشاعر الامتنان إلى السلاسل العظيمة ذات الطموح النهضوي التي تصدرها الكويت، فلطالما دأبت على صناعة قارئ عصريّ.

الآن أكمل ذلك كله، بالهمة ذاتها، في مقامي الألمانيّ، لكنّ الصعوبات الكبيرة كثيرًا ما تودي بي إلى الإحباط.

 

2

بعبارةٍ واحدة؛ المكتبة هويتي.

 

3

لا أستطيع قبول فكرة البيت دون مكتبة. هي فكرة نمت حتى صارت مبدأً. دخلَ إنسان العصر الحجري القديم إلى الكهف بحثًا عن مسكنٍ، بعد قليل من الوقت بدأ يرسم على جدران ذلك الكهف صور العالم الخارجيّ، بالأخصّ الحيوانات، بغرض بثّ قوةٍ سحرية، كما كان يظنّ، في عمليات الصيد. حسنًا، إذا كان البيت كهفي فالمكتبة هي جدارياتي وتمائم سحري الوحيدة!

 

4

لا تزال كتبي في بيت العائلة في مخيم خان الشيح كما هي. واحدٌ من أسباب التفاؤل القليلة في هذا الوقت، على الرغم من الحرب القاسية التي كانت حصّة المخيم، كما غيره من المدن والبلدات السورية، هو أن كتبي بعافية. الأقارب الذين يسكنون بيتنا الآن يرسلون، بين حين وآخر، صورًا للمكتبة من باب الاطمئنان عليها.

أهلي الذين لم يكترثوا لتلك الكتب في يوم من الأيام، هم من يلحّون على سكّان بيتنا أن يصوّروا المكتبة، وكأنها البقية الباقية من معنى البيت.

صارت مكتبتي أثرَ البيت الأخير، فما الذي يريده المرء أكثر من ذلك؟

 

5

لدي هواية قديمة في إنزالها عن رفوفها وتنظيفها وإعادة ترتيبها، دون توفر ذريعة التنظيف أحيانًا. ذلك شيء طفوليّ يشبه اللعب.

أهم ما في الأمر أنه يجعلك تكتشف كتبًا موجودةً كنت نسيتها في زحام الكتب الأخرى. أكره أن يستعمل أحدٌ ما الكتابَ سمّاكةً لأوراق يكتب عليها عنوانًا أو ملاحظةً يوميةً. أكره تلك الكلمات لأن ما تتركه على الغلاف ليس إلا ندوبًا.

من جانب آخر، لا أكتب داخل الكتاب أيّة كلمة، ملاحظاتي واقتباساتي منه أضعها على أوراق خارجية. لدي ملفٌ، مبوّب ومنظّم، أجمع فيه ملخصاتي للكتب التي قرأتها، أعود إليه بلا انقطاع لأخذ ما يلزمني للمقالات التي أكتبها. أحيانًا تصل تلك التلخيصات إلى العشرين صفحة مع كتب الدراسات.

هناك أناس يضعون توقيعاتهم على الصفحة الأولى. أرفض ذلك رفضًا قطعيًّا. فعلته بلا شكّ من باب التجربة في مرحلة ما، لكنني اشتريت من أحد الأرصفة مرةً عددًا قديمًا من مجلة "الكرمل"، وفي الباص الذاهب إلى البيت وجدتُ على الصفحة الأولى اسمًا على شكل ختم. الاسم الذي نسيته هو مقتني المجلة. ما أتذكره أنه عميد في الأمن، واسم الفرع الأمني الذي يعمل فيه. ذلك الحدث أشعرني أنّ المجلة خارجة من السجن، أو أنها جزء من مكتبة مُصادرة. نفرتُ من التواقيع كليًّا. لا أزال أفكر إن كان السيناريو الذي رسمته صحيحًا أم لا، أو لعلّ ذلك العميد قارئ فعلًا. من يدري! ربما حين أصل إلى كتبي سأبحث عن ذلك الاسم وسأحاول البحث والوصول إلى معلومات عنه. إن كان قارئًا كسبنا التعرّف على نوع جديد من القرّاء، أما إن كانت المجلة سجينةً فهذا باب لا أتذكّر أنني قرأت فيه من قبل.

 

6

لدي مكتبة جديدة لا تزال في طور النمو، رغم مشقّة الحصول على كتب عربية في ألمانيا. أوصي دومًا أصدقاء يعيشون في بلدان عربية، وأدفع ثمن الكتاب وشحنه، وفوق ذلك تأتي مرارة انتظار الوصول. لمرّاتٍ عديدة، ذهبت الطرود البريدية القادمة من الخارج إلى إدارة الجمارك الألمانية، فأرسلوا لي بالحضور شخصيًّا لأجل فتح ذلك الطرد. ولك تُخيّل مقدار المرارة في أن يتعامل بعض موظفي الجمارك مع الكتب بريبة مخابراتية لمجرد أنها باللغة العربية. الأنكى، بعد أن تخبره لمحة عن المضامين، أنّ عيونه تكاد لا تصدّق أنَّ هناك كتبًا فلسفية، على سبيل المثال، بهذه اللغة، لغة الإرهاب.

 

7

تحوّلت اهتماماتي في المنفى وباتت أكثر منهجية، ولهذا صرت أميل إلى اقتناء الأعمال الكاملة للكتّاب، ناهيك عن تخصيص رفوف بأكملها لكلّ موضوع بحثي أعمل عليه. إضافة إلى أنني مشترك في مكتبتين ألمانيتين عامتين توفران كتبًا بالعربيّة، وبسبب نفوري من القراءة في المكتبات العامة تقتصر علاقتي معهما على الاستعارة.

إلى جانب ذلك، أواظب على قراءة الكتب المصوّرة ضوئيًّا، عن طريق اللوح الحجريّ المعاصر: الآيباد، الذي حلّ لي عقدة القراءة الإلكترونية كليًّا، وجعلني أستمتع بها دون التفكير بالوسيط.

أفتقد المجلات كثيرًا. كان لدي أرشيف لا بأس به من أبرز المجلات الثقافية والفكرية، مثل "الكرمل" و"فصول" و"الطريق" و"النهج" و"الاجتهاد".. إلخ. تستطيع أن تناضل للحصول على كتب من بلادٍ بعيدة، لكنك تعبث بوقتك وبوقت الآخرين في طلب مجلاتٍ جُلّها مُحتجب. على أنّ موقع "أرشيف المجلات الثقافية العربية"، الذي أطلقته "شركة صخر" منذ سنوات على الإنترنت، ساعدني كثيرًا في تعويض هذا النقص، ورغم أن كثيرًا من المجلات التي يحتويها لم تصوّر بجودة ونقاء، وأنّ هناك خللًا تقنيًّا في طباعة المواد، إلا أنه يبقى مشروعًا نبيلًا يضع المجلة في متناول القارئ، ويسهّل عملية البحث في ملايين الصفحات، وينقذ ميراثًا وازنًا من الضياع، ويساعد في صون البقية الباقية من الأمانة العلمية التي انتهكتها صفحات الإنترنت.

 

8

قراءة الكتب تتيح للإنسان أن يصنع هويته، فيما تسعى وسائل التواصل الاجتماعي إلى صياغة هوية من اختيارها. القراءة في هذا الزمن مقاومة إنسانية لآليات الهيمنة على عقولنا وتفكيرنا وتصنيع توجهاتنا. لكن هذا لا يشمل أيّة قراءة، فكثير من القراءات خاضعة لمنطق العصر الاستهلاكي. ما أتحدّث عنه هو القراءة ذات الإستراتيجية المعرفية التي ترفض الخضوع للتسطيح والسيطرة ومنطق الرائج.

 

اقرأ/ي أيضًا:

القارئ في اللانهاية

المكتبات العامة في المنفى.. سيرة للحضور العربي الناقص