04-فبراير-2021

جدارية في مدينة أوتريخت الهولندية

لم يخترع البشر سوى الكتاب، بقية ما تبقى محاكاة للطبيعة.

عندما اخترعنا الملابسَ فعلنا ذلك بتأثير من غيرةٍ أكلتْ جلودنَا العارية، من أوراق الأشجار، ومن صوف ووبر الحيوان.

عندما صنعنا الأسلحة الأولى: السكاكين والحراب.. نسخنا مخالب الحيوانات ليس غير. ولن أتحدّث عن القنابل والصواريخ فهذه أشياء موجودة قبل كوكبنا نفسه الذي خلقه انفجار كبير، أما ما بعده فبراءة الاختراع محفوظة للبراكين.

في الأكواب والصحون قلّدنا الصخر.

في البيوت قلّدنا الأعشاش والجحور.

في الطيران والإبحار سرقنا سرّ أجنحة الطيور.

في الأضواء والكهرباء سرقنا أضواء الكواكب ولمعانها. وحتى في اختراع العجلة لم يفعل العبقري الأول شيئًا أكثر من مراقبة الشمس وهي تتدحرج بين جهتي الشروق والغروب.

ليس لنا سوى الكتاب، الكتاب الذي لا يشبهه شيء في الطبيعة، ولأنّه كذلك استطعنا التفوّق عليها في جولة واحدة.

الكمبيوتر وما يتصل به ليس سوى تطوير لفكرة الكتاب طبعًا.

***

 

لا يقرأ الإنسان أكثر من ألفيْ كتاب في حياته. لو افترضنا شخصًا عاش سبعين عامًا، بدأ قراءاته الجادة في العشرين من عمره، على اعتبار أنّ ما قبل ذلك مجرّد تمارين وبحث عن الذات، فإنّه خلال خمسين سنة، إذا واظب على قراءة أربعة كتب شهريًّا، سوف يُجهِز في نصف قرنه على ما يقارب ألفيْ كتاب.

أتحدث عن كتب قُرئت بالكامل، دون التي اكتُفي بالرجوع إلى فصول محدّدة فيها، أو التي بُدئ بها دون إكمال، ودون المجلات طبعًا.

لا يبدو الرقم كبيرًا، لكننا حين نتذكّر فلاسفة وعلماء وأدباء قدّموا أفكارًا جديدة، سندرك أن قراءاتهم مثّلتْ خيارات نوعية، حملتهم إلى الاكتشافات والإضافات.

إنّ الأَلْفَيْ كتابٍ التي تعادل حياةً بُني فيها العقل وأُعيد معها تشكيل الذات، لا تقلُّ عن الكتب التي صنعت عظماء مثل ابن رشد وماركس وفرويد وإدوارد سعيد.. وغيرهم.

***

 

أجمل صورة للقارئ رسمها تشيخوف في قصّة "الرهان"، حين حبس شخصٌ شخصًا آخر مقابل حصول السجين على ثروة الساجن إذا أتم خمس عشرة سنة، وفعلًا ينجح الحبيس بسبب القراءة، حيث يقضي سنواتٍ متجوّلًا بين آداب الشعوب، والتاريخ والفلسفة، إلى درجة نسيانه للزمن تمامًا، فزمنه أصبح لحظة متواصلة لا تنتهي لا تبالي بتعداد أيام أو سنوات.

القرّاء كلهم، في اعتكافهم واستغراقهم، هم بطل تشيخوف السجين، لنقلِ الحرّ، الطليق، المتحرّر من ربقة الزمن، وكلهم، آناءَ الإبحار مع كتاب، يمنحون الرغبات أقدامًا، والخيال أجنحةً، ليقطعوا أزمنةً أكبر من الأزمنة.

***

 

يجب على المكتبة أن تحتوي أعمالًا كلاسيكية دائمًا. ليس لقراءتها والعودة إليها وحسب، إنما لتكريم عيوننا بالنظر إلى تلك الأسماء العظيمة على كعوب كتبهم فوق الرفوف.

مع تلك الأسماء التي تصبح جزءًا راسخًا في حياتنا ننجح، للمرة الأولى، في اختيار من نريد العيش معهم.

***

 

إنشاء مكتبة ليس إلا استدعاء العالم والتاريخ والوجود للسكنى معنا في ذات البيت.

***

 

قراءة مخطوط أدبي متعة مضاعفة، فلأنك وحدك المخصوص بقراءة هذا العمل دون الآخرين، ستفكّر في شكل غلافه، وفي سمك أوراقه ونوعها، وسترسم له صورةً لن يستطيع أي ناشر تحقيقها، ولذلك حتى لو صدر الكتاب بشكل آخر يظل بإمكانك التعامل مع نسختك التي في الخيال على أنها النسخة التي كتبت من أجلك فقط.

***

 

يومَ فصّل ليَ النجارُ المكتبة الشهية التي طالما حلمتُ بها، كدتُ من فرحتي ألبسها وأنزل إلى الشارع.

***

 

وهناك ذلك الكتاب الهام والضروري الذي لن تقرأه، وتظنّ طوال الوقت أنك ستفعل ذلك يومًا.

غالبًا ما يكون في حوزتك، إذ إنك سعيتَ من قبل للحصول عليه لأنك يجب أن تحصل عليه، ومن يومها كلّما ذُكر أمامك أعلنتَ بفخرٍ أنه على رأس قائمة قراءات الشهر أو الموسم المقبل عليك. تقول ذلك بمنتهى الثقة مع أنك لا تفعل ولا تنفذ، لكنك كذلك لا تندم.

يجب أن تعرف أنك لن تقرأه، فهذا الكتاب ليس للقراءة، هذا الكتاب الذي هو عندي الآن "الأبله"، وربما يكون عندك "رسالة الغفران"، أو "الأوديسة".. أيًّا يكن، هذا الكتاب موجود فقط ليجعل من الأيام المقبلة فكرةً قابلة للحدوث، بعيدًا عن الوعود المستحيلة التي تقطعها على نفسك.

بعبارة واحدة، هذا الكتاب موجود ليجعل من الغد قابلًا للتحقق.

***

 

في عام 2012، في اليوم العالمي للكتاب، قام العشرات من القرّاء المصريين بالتظاهر أمام مكتبة الشروق، وذلك احتجاجًا على احتكار دار الشروق (التي تتبع لها المكتبة) للكتّاب، وإسقاط هيمنة رجال الأعمال على سوق الكتب، وإصدار طبعات شعبية من الكتب، وخفض الأسعار بشكل عام.

قالت إحدى المتظاهرات إن الوقفة تمثّل بداية الاعتراض على ممارسة الرأسمالية في الثقافة، وقال آخر إنهم يرفضون تعامل رجال الأعمال مع الثقافة على أنها "سلعة".

أما الناطق باسم الدار والمكتبة فخاطب المتظاهرين مؤكدًا أن السعر يوازي تكلفة الطبع والنشر، ووعدهم بطبعات شعبية وأخرى تناسب الطلبة، وغير ذلك من الوعود التي لا أدري بعد عقد كامل من الزمن ما الذي حدث لها.

لا شك أن الكتاب صناعة، والناشرون يتطلعون إلى الربح والثروة، لكن القرّاء سيظلون يروْنَ المسألة كما يجب أن تُرى: الكتب جمهورية وهم مواطنوها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

قارئٌ منفي وإستراتيجياته

يد في ألمانيا تقلّب على الشاشة كتابًا في سوريا