30-يونيو-2020

مكتبة في سوق الأزبكية بالقاهرة (Getty)

المكتبة حياتنا الأخرى التي نمت داخل الحياة. هي من سمحت لنا أن نعيش حياة سريّة لا يفهم لغتها سوانا.

 

تبدأ تلك الحياة الصغيرة مع أول كتاب تعرفه جيّدًا، وتستطيع اعتباره نقطة علّام أولى على الطريق، لتتوالى الكتب ويتوالى معها وضوح الطريق، في الوقت الذي تعمل فيه الحياة الكبيرة على تغييب هذه النقطة، فمرّة نعتبر بدايتها لحظة وعيِ الأشياء، ومرّاتٍ أخرى نعتبرها غياب الوعي فينا وفي الأشياء.

 

لا نروي حياتنا كما هي حين نرويها. تحذف السيرة وتضيف ما تشاء لتبني حياةً بديلةً. سيَرُ السير هي المحذوف منها، أما حين نروي حياتنا مع الكتب والمكتبة فنُشيِّد.

 

على أنّ حكاية المكتبة الشخصية لا تُروى دون رواية القصص المتعلقة بالشخص الذي بناها، وملأ رفوفها بالعناوين، مضافًا إلى ذلك قصّة كل كتاب قبل قراءته وبعدها.

 

أكتب هنا مدفوعًا بخيبة ومرارة لا تتوقّف عن تلويث أيامي، ذلك أنني منذ فقدت كتبي التي طالما باهيتُ بها كإنجاز أشعر بنقصان في المعنى الشخصي. لدي صورة لها الآن أستعرضها طوال الوقت، محاولًا تقريب كعوب كتبها بالزووم لأتذكرها، ورغم أن جودة الصورة الضعيفة تُفسد عملية التكبير إلا أنني سرعان ما أعرفها.

 

ثمة كتب تشكّل فوارق حاسمة في حياة الإنسان، ليس لأهمية مضمونها وحسب، بل لطريقة حصوله عليها، أو لطريقة فقدانها.

 

الكتاب الأول الذي اشتريته في حياتي هو "ديوان إيليا أبو ماضي"، الشاعر الذي لم أكن محتاجًا إلى جهد لاكتشافه، فاسمه حاضر على الدوام في الكتب المدرسية. ففي الخامسة عشرة من عمري، اشتغلتُ عامل تنظيف في مكتب سفريات في دمشق. دبّر لي أبي تلك الوظيفة في عطلتي الصيفية لقناعته أنّ العمل سيجعل مني رجلًا، ولأنّ أولاد الفقراء يجب أن يعملوا في العطل لعلهم يصنعون فرقًا في ميزانيات العوائل.

 

بالقرب من المكتب تقع إحدى أكبر مكتبات المدينة، ولطالما تجوّلت فيها مستطلعًا العناوين وأسماء المؤلفين، ومن كل ما أراه لم أعرف إلا اسم أبي ماضي، الذي اشتريتُ كتابه بعد أوّل مبلغ تسلّمته من صاحب العمل، متحمّلًا توبيخ أهل كانوا ينتظرون ذلك المال لما هو أكثر جدوى من كتاب.

 

خلقت الجولات بين رفوف ذلك المتجر نوعًا من الألفة مع بعض العناوين، التي سوف أقتنيها فيما بعد، فتسليم العيون للكتب يخلق سحرًا لا يمكن الخلاص منه. مسّني سحرٌ من كلمة تتصدر الكثير من الأغلفة، لم يسبق لي أن سمعتها أو قرأتها من قبل: رواية.

 

حين سألت من أسألهم في محيطي عن معنى الكلمة، اتفقوا على جواب واحد: قصة طويلة. وقتها غضبتُ من غشّ دور النشر والمطابع: لماذا لم يضع هؤلاء الأوغاد عبارة "قصة طويلة" على الأغلفة ويرحموني؟!

 

خلال عملي كمعلّم للغة العربية في إحدى قرى جبل الشيخ، اكتشفتُ شاعرًا في الصف السابع، ولأنّني نشأت مثله في بيئة بعيدة عن الثقافة رحتُ أجيبه على أسئلته التي تشبه أسئلتي، وحدّثته عن أساليب الشعر التي تغيّرت جذريًا، وانشقت عن مسار نصوص الكتب المدرسية، ودون أن يسألني أخبرته أن هناك فنًّا اسمه الرواية، بعض الأغبياء يعتبرونه قصة طويلة.

 

نشرتُ له قصيدة في صفحة "أدب الهواة"، في إحدى الصحف، ويوم جلبت له النص المنشور قدّمت له نسختي من ديوان أبي ماضي، مع حكايتي معه، هديةً.

 

لأجل هذا، لا يظهر هذا الكتاب في صورة الموبايل التي في حوزتي.

 

هل قلتُ إن الحياة الصغيرة تبدأ مع كتاب تعرفه جيدًا؟ إذًا، عليّ العودة أبعد مما سبق، إلى بداية صنعها أبي.

 

أبي الآذن في إحدى مدارس الأونروا في المخيّم، سيعود يومًا إلى البيت حاملًا كرتونةً ملأى بكتب الأطفال التي قامت إدارة المدرسة بإتلافها. فعل ذلك لأنّه انتبه إلى تعلّقي بقصائد وقصص المدرسة، حيث رآني أقضي الوقت الذي أزوره فيه في عمله متفحّصًا تلك الخزانة البائسة التي كتبوا عليها "المكتبة".

 

خلّصه الإتلاف من شعوره بالعجز، ومنحه فرصة القيام بواجبه الأبوي نحوي.

 

غرقت في قراءة محتويات ذلك الصندوق السحري، وشدّتني فيه سلسلة اسمها "المكتبة الخضراء"، التي سأعرف فيما بعد أنّ أبناء المدينة وبناتها يلحّون على أهلهم في شرائها، بينما نحن، أبناء "الأونروا"، فتصلنا مجانًا ولا نبالي بها.

 

سيكون كتابي، من كلّ ما احتواه الصندوق، كتابًا صغيرًا اسمه "حيوانات ما قبل التاريخ"، الذي لا أزال أتذكّر صورة الديناصور الأليف متربّعًا على غلافه. سحرني أن الحديث يدور عن مخلوقات غير موجودة، فنشأ عندي تصوّر طفوليّ آنذاك أن الكتابة ينبغي أن تكون عن عالم غير موجود، خصوصًا أنّ كلمة "قبل" تصرّح بذلك في العنوان، صحيح أنني لم أفهمها تمامًا، وصحيح أنني سألت الجميع في محيطي، لكنّ أحدًا منهم لم يستسغ عبارة "قبل التاريخ" لكي يفسّرها.

 

في الوقت الذي أقضيه مع الكتب التالفة، بدأت العائلة تتحدّث عن أن القراءة غالبًا ما تودي بأصحابها إلى الجنون. دليلهم على ذلك المهندس عمران الذي يتجوّل في الشوارع مرتديًا النصف الأعلى من بدلته، مع ربطة العنق، بينما نصفه الأسفل يرتدي بيجامة نوم قديمة.

 

مع ذلك، ورغم أن العائلة راحت تدعوني "عمران الثاني"، دخلت أمّي البيت عائدةً من سهرة في بيت عمي، وأخرجت من ثيابها الداخلية كتابًا وألقته إليّ، وهي تقول: "بالتأكيد لن يقرؤوه، لكنني لو طلبته منهم لأصبح مهمًّا عندهم ورفضوا إعطائي إياه".

 

حملت الكتاب وتأملت غلافه الذي يحتوي وجهَ رجل ذي نظّارة كبيرة. لم أفهم العنوان، كما لم أفهم الكتاب، ورغم ذلك علقت برأسي عبارة طلسميّة تقول: "فقالوا: لماذا تحب النبيذ الفرنسي؟ قلتُ: لأني جدير بأجمل امرأة"، ولشدَّ ما تحولّت إلى دودةِ أذنٍ في أيامي تلك.

 

يشدّني الشعر أينما صادفته. أنتظر دومًا الفقرة الصباحية التي يظهر فيها رجلٌ عجوز يلقي كلماتٍ ساحرة، تشبه مسبحته وطاقيته الصغيرة التي تحمل كتابة تبدو غير مفهومة.

 

تلمسني الأشياء التي يؤكّد فيها خطيب المسجد، في صلاة الجمعة، أنها قصيدة قيلت في كذا، أو لأجل كذا.

 

يلتَبِس عليّ القرآن والشعر، فكلاهما لغةٌ غير موجودة في أفواه الناس، وكلاهما غير مفهومين بالنسبة لي، حتى صرتُ متأكّدًا بأن الكتابة ينبغي أن تكون غامضةً، وعن أشياء لا وجود لها.

 

في احتفال مدرسيّ، في إحدى المناسبات الوطنية التي لا تنتهي، ألقى ولدٌ صغيرٌ قصيدةً قصيرةً صفّق لها الجميع، بينما حاولتُ استغلال فترات التصفيق لأحفظها، غير أنني لم أظفر منها بغير مقطع قصير:

"عكا واقفةٌ كالطودِ

تلوّح للتاريخ بيمناها

مات الجزّار وعكا باقيةٌ

في القلب سناها".

كتبته في دفتر المسوّدة، الدفتر الوحيد الذي يُسمح لنا أن نخربش عليه ما نشاء. أكّد المقطع نظريتي فكلّ ما فيه غامض وغير موجود: عكا، الطود، الجزّار. رغم أنّ قريبًا لي، يدرس في كلية الصيدلة، وهو أكثر من يقدّم إجاباتٍ مُرضية؛ أخبرني أن الطود جبل، عكا مدينة في فلسطين المحتلة، الجزّار تولاها في الماضي.

 

قريبي ذاك، الصيدلانيّ مع وقف التنفيذ، الذي يرسلني إليه أهلي مع أخي لكي يساعدنا في دراسة الرياضيات، كان يحمل إنجيلًا يقرأه في حاكورة البيت. لم أكن أعرف الإنجيل وجهًا لوجه، وكل معلوماتي عنه مستمدّة من دروس الديانة الإسلامية في المدرسة، التي تؤكّد أنّه كتاب سماوي لكن النسخة التي يتداولها الناس منه مزوّرةٌ، لم يقلها الله المسكين بل نُسبت إليه، وأُخفيتْ كلماته في مكان سرّي.

 

ضحك طالب الصيدلة من تلك الأفكار، وحكى لنا قصة المسيح كما قرأها. تركنا وظائف الرياضيّات وأصوات مدرسي الديانة الذين يعتبرون عملهم نوعًا من العبادة رغم أنهم يقبضون لقاءه رواتب شهرية. تركنا ذلك كلّه واستمعنا إلى واحدة من أجمل قصص الحياة آنذاك.

 

أكثر ما توقّفت عنده هو صرخة المسيح على الصليب: "إيلي، إيلي، لمَ شبقتني؟". قرأها الراوي باللغة السريانية التي كانت مكتوبة بحرف عربيّ، ثم قرأ علينا الترجمة: "إلهي، إلهي، لماذا تخليّت عني؟".

 

صارت لدي قصّة لا يعرفها أحد في محيطي. في الحقيقة، هم يعرفونها لكنْ بروايةٍ أخرى، تقول إنّ المسيح لم يصلبْ، بل تحوّل الواشي والخائن يهوذا الإسخريوطيّ إلى شبيهٍ له، فعوقب العدو بالصلب، ونجا الناصريّ ثم صعد إلى ربّه.

 

في الجامع، في المدرسة، بين الأهل، صرتُ أروي القصّة الإنجيليّة مُتبنيًّا إياها بكل ما فيها من دراما مغلقة بلا حلول، مُتخليًّا عن القصة الإسلامية التي لا تنحو إلى تحقيق العدل وإنزال العقاب على من يستحقه وحسب، بل إنّها تُقدّم دراما أكثر تكاملًا.

 

من أين لي، آنذاك، إدراك أنّ لكل حكايةٍ وجهاتِ رؤية مختلفة؟

 

بشكلٍ فطري ساذج، ملتُ إلى قصة الهزيمة والنّكران والظّلم، الأمر الذي جعل الجميع يعتبرني منحرفًا، أو ضحيةً لأفكار شيطانية ينشرها المسيحيون، رغم أنّهم يعرفون أنّه لم يكن في مخيّم خان الشيح مسيحي واحد، يمكن أن تُلقى عليه تهم التجديف والترجيف، فتحوّلتُ، أنا نفسي، في نظرهم إلى نوعٍ من يهوذا.

 

انغماسي في الصلاة وتلاوة القرآن خلّصني من تلك المهمّة. لم أفعل ذلك عن تخطيط، إنّما كان يشدّني صوت التلاوة فأتسرنمُ ملاحقًا ذلك الصوت الذي ينزل من السّماء إلى فمي مباشرةً.

 

من شدّة فرحة الأهل بي، اختاروني لقراءة "سورة يس" فجرَ العيد على قبر الجدّ، في تقليد سنوي تُهدى فيه بركات الكلمات المقدّسة إلى أرواح الغائبين.

 

بين صفحات القرآن، وبين وجوه أعمامي وعمّاتي، رأيتُ أبي مزهّوًا بابنه الذي يقرأ أجمل الكلمات، من أرفع الكتب، ضمن حشدٍ عائليّ نلتُ منه التوبيخ على روايتي الشاذّة لقصّة المسيح.

 

الكلمات سحرٌ يقبض على قلبي حتى لو أفهمها، سواءٌ في قصة، أو أبيات شعرية، أو آيات قرآنية.

 

الكلمات ما يجب أن أقول مثلها، لكنّ الكتب القليلة التي في حوزتي غامضة، ولا أحد يشرحها، لا ذلك الشاعر الذي يتحدّث عن النبيذ الفرنسي، ولا معاني "سورة يس"، خصوصًا تلك الآية القائلة: "والقمر قدّرناه منازل حتّى عاد كالعرجون القديم". الشيء الوحيد المفهوم أنني مثل المسيح وإلهي تخلّى عني، صحيح أنّ ذلك التخلي قاده إلى الصلب، لكنّ الصحيح أيضًا أنني أصلب يوميًّا على غموض الكلمات.

 

وجاء المعلّم في ذلك الصيف الذي تمتزج فيه روائح آباط وجوارب التلاميذ، بحيث تمحو الفوارق بين الصف المدرسي والمدجنة، وفي تلك الحصّة الأخيرة التي يوصل فيها الجوع أفواهنا إلى ذروة التعفن؛ جاء المعلم وكتب شعرًا من خارج المنهاج على السبورة.

 

لم يكن معلمَ اللغة العربية، ليكون ذلك مفهومًا، بل معلمَ الاجتماعيات. ما يعني أنّه لم يكن يرغب بتدريسنا بمقدار ما رغب في جعل السبورة مسرحًا لانتشائه الشعري، وفيما لو داهم المدير قاعة الصفّ فلن يستطيع اعتبار القصيدة تهرّبًا من العمل.

 

ردّدنا وراءه ذلك الكلام غير المفهوم في عاصفة روائح عاتية.

 

فجأةً فهمت شيئًا في القصيدة التي لا تشبه القصائد المدرسية المنشغلة بالوطن والمبادئ والأخلاق. كلماتٌ هنا وأخرى هناك أفهمتني أنّ القصيدة تتحدّث عن شخصٍ يموت على سريره في مستشفى.

 

موت، سرير، مستشفى. طرتُ من مقعدي فيما أنشد تلك المقاطع. غابت روائح التلاميذ، اختفى المعلم، لم يعد هناك صفٌّ خامسٌ ابتدائيٌّ، لا شيء سوى الإسفنجة تتحرّك وحدها لتمسح القصيدة، ثم تتحرّك قطعة من الطبشور وترسمني مريضًا على سرير في مستشفى ملء السبورة.

 

دون أن أشعر، وجدتُ نفسي في بيت عمي. كبرى بناتهم تستعد للامتحان مستظهرةً قصيدة عن دمشق. مسّني السحر فورًا. تظاهرتُ بالانشغال مع إخوتها بينما عقلي يلتقط الكلمات التي تخرج من فمها، إلى درجة أنها باتت تبدو فتاة جميلة جدًّا، رغم أنني كثيرًا ما كرهتها لوجود شعرٍ على ذقنها.

 

ها هي الشام بعد فرقة دهرٍ

أنهرٌ سبعة وحورٌ عِيْنُ

 

آه يا شام! كيف أشرح ما بي

وأنا فيكِ دائمًا مسكونُ.

 

ما إن قامت لتقضي حاجتها حتى قفزت إلى الكتاب الذي تركته مقلوبًا، ومزّقتُ الورقة ودسَسْتُها في جيبي وانطلقتُ إلى البيت.

 

تقول سطورٌ قبل القصيدة إنّ الشاعر نزار قباني عاد إلى الشام بعد غياب طويل، وكتبها بتأثير انفعالات العودة.

 

نزار قباني! وقعتُ في غرام الاسم، إنّه قريب جدًّا من أسماء الناس في حياتي.

 

لأنّه موجود على الأرصفة، وفي أكشاك الصحف، سيتحوّل الحصول على كتاب له هوسًا يوميًّا، وستكون المفاجأة أنَّ أمّي تعرفه. يا إلهي! أمي تعرف شاعرًا ولا تقول لي. لشدّة ما سألحّ عليها باسمه والسؤال عمّا تعرفه عنه، سوف تعدني بشراء كتاب له.

 

في شارع الحلبوني الدمشقيّ، الذي قالت إنها شاهدتْ فيه مكتبات، سنمضي معًا وندخل المكتبة الأولى، ولأنّها ستشعر بالخجل من بائع الكتب ستتركني أختار كتابًا وستدفع ثمنه دون أنّ تتدخّل، ولاحقًا سأعرف شيئين؛ الأول أنّها خجلت أن تشارك في الشراء لأنه معروف بكونه شاعر الحب، ومن المعيب على الأمهات الوقوع في الحبّ، وأنّ الكتاب هو أول ما نشره نزار في حياته.

 

سوف أغرق في تقليده لسنوات، وفي الصف الأول الثانوي، حين سأنتقل إلى الدراسة في المدينة، سوف أبدأ بانتحال مقاطع من قصائده في الرسائل التي أكتبها للعشّاق من زملائي، مقابل 25 ليرة سورية للرسالة الواحدة.

 

شكّلتُ شبكة زبائن تكفي لإمدادي بكتب قبانيّة جديدة إلى أمدٍ يتوقّف دومًا عندما يحصل أولئك الفتيان على قلوب فتيات الرسائل المسروقة، وينتقلون من المراسلة إلى القُبل والعناقات في الحدائق والأزقّة، فيما أبقى طالبًا ريفيًّا وحيدًا يتخيّل نساء القصائد.

 

ستفتح مكتبة "ثانوية الشهيد فايز منصور" في دمشق أمامي أبوابًا لا نهائية، حين تجد فيّ أمينة المكتبة حلًّا لكسلها وتسلّمني سجل الإعارة كي أشرف على ما يأخذه الطلاب، مؤمّنةً لنفسها راحة دائمة لشرب قهوتها باسترخاء، والاستماع إلى راديو لا يتوقّف عن بث الأغاني.

 

وقتها سأعرف أنّ وزارة التربية أصدرتْ أمرًا إداريًّا، على الثانويات العامة كلّها، يقضي بعدم إعارة الطلاّب كتب جبران خليل جبران وطه حسين ونجيب محفوظ.. وآخرين، لكنّ أمينة المكتبة ستسمح لي، بحكم علاقتنا التي صارت أقرب إلى الوظيفة، بأخذ ما أريده من قائمة الممنوعات، على ألّا أسجّله في سجل الإعارة.

 

قائمة الكتب الممنوعة وكسل أمينة المكتبة، كانا أفضل النصائح لقارئ مبتدئ.

 

قرأتُ "اللص والكلاب" لمحفوظ، ولا أزال أتذكّر جفاف حلقي وارتعاش أصابعي وأنا أتجوّل مع سعيد مهران في شوارع القاهرة للانتقام من الزوجة والصديق الخؤونين. قرأتُ "الأيام" لطه حسين، و"شجرة الكون" لابن عربي، والكثير من دواوين الشعر القديمة والحديثة، خصوصًا كتاب "المعلّقات السبع" الذي لا أكاد أعيده حتى أستعيره من جديد، إلى أن حفظته عن ظهر قلب.

 

نَمَت لديّ صداقة مع زميل لم أر منذ قابلته شخصًا يقرأ مثله، ولا أعرف ما الذي يفعله الآن، لكنني سأظل أذكر أنه من أعارني كتابيْ "أطواق الذهب في المواعظ والخطب" للزمخشري، و"القوس العذراء" قصيدة الشمّاخ التي شرحها محمود محمد شاكر. ولعلّ أهم ما حدث أنّني حصلت على نسخة من "حصار لمدائح البحر" من أحد روّاد مكتبة المدرسة، وهالني أنّني فيما أقرأ أسمع صوتًا آخر، لعلّه صوتي، يتلو عليّ السطور لحظة وقوع العين عليها، وحين وصلتُ إلى المقطع الذي يقول: "فقالوا: لماذا تحبُّ النبيذ الفرنسي؟ قلتُ: لأني جدير بأجمل امرأة" شممتُ رائحة ثياب أمّي الداخلية.

 

على التوازي مع ذلك، وجدتُ كيسًا كبيرًا مملوءًا بالكتب قرب ملعب كرة القدم الترابي، الذي نقّيناه من الحصى والحجارة. طارت الكرة بعيدًا فركضتُ أجلبها. حين رأيت الكيس وفتحته وعرفت ما فيه رميتُ الكرة لأولاد الحارة، وحملت ذلك الكيس على ظهري مغادرًا المباراة، بل لعب الكرة، إلى الأبد.

 

في البيت، أمام تلّة الكتب العجيبة، أغلق الغموض رأسي بأقفال من الفولاذ، فلم أفهم شيئًا رغم محاولاتي كلها مع تلك المجلدات التي حملت عناوين: "رأس المال"، و"ما العمل؟"، و"أصل العائلة والملكية"، و"دور الفرد في التاريخ".. وأشياء أخرى لا أتذكرها.

 

ولدنا في منازل لا تمنح أحدًا غرفة خاصة، فاكتظاظ البيوت بالسكّان وفقر أهلها، لا يسمحان بمثل هذا الترف، ولعلَّ أقصى ما يمكن أن تحصل عليه بعد ثورات تمرّد وغضب هو دفّة في خزانة صغيرة، يمكنك أن تضع فيها متعلقاتك الشخصيّة، وكل تلك الأشياء التافهة التي ترقى إلى مستوى الكنز عند صاحبها.

 

وضعتُ الكتب الماركسية إلى جوار الكتب المُتلفَة، فيما كان أحد أصدقائي يضع في الخزانة التي منَّ عليه بها أهله قناني عطور شبه منتهية، لا يتعطّر منها خشية نفادها، مكتفيًّا بتشمّمها كمخدرات يومية، بينما جعل صديق آخر خزانته مكتبة لأشرطة كاسيت الأعراس.

 

كثيرًا ما كانت تلك الخزائن التي يصنعها نجّارو وحدّادو ذلك الزمن تستعمل لأجل وضع الفِرَاش فوقها، أو أنها جزء سفليّ من خزانة تحفظ فيها العائلات أواني زجاج رخيصة يعاملونها معاملة التحف.

 

خزائِنُنا مثل قلوبنا، ولهذا تتعرّض لاقتحامات تفتيش دائمة من الآباء بحثًا عن أسرار الأبناء الجنسيّة أو العاطفية، أما الأسوأ فهي غارات السطو التي يشنّها الإخوة الصغار الذين لم يبلغوا عمرًا يؤهلهم لامتلاك خزانة خاصة، فيظلّون يخلعون الأبواب الصغيرة وينهبون ما وراءها، ولهذا بدا جامع العطور أكثر أبناء جيلنا كآبة، فلطالما نهبت كنوزه من غزاةٍ لم يقتصروا على الإخوة الصغار، بل إنّ تحالف اللصوص ضدّه ضم شمل الأب والأم. أما خزانة الكتب فنجت مرارًا من مختلف أصناف الغزاة والعابثين، إلى اليوم الذي كافأني فيه أبي بتفصيل رفوف خشبيّة، بعدما قامت إدارة المدرسة بإتلاف عدد من المقاعد، فأخذ خشبها إلى نجّار محلي وقدّم لي إحدى أعظم هدايا العمر.

 

ثم جاء موعد معسكر الصف العاشر، حيث كان يجب علينا، نحن طلاب هذا الصف، الالتحاق بمعسكر نهاريّ خلال عطلة الصيف، لكي يدربونا على الانضباط العسكري واستعمال البنادق وفكر القائد الذي لم يحصل على لقب "الخالد" آنذاك.

 

لم نكن نبالي بذلك، همّنا منصبٌّ على أنّ المعسكر المختلط فرصة استثنائية للقاء البنات.

 

يمكن للطالب أن يقوم بهذا المعسكر في أيّ مكان يريده، في مختلف المحافظات، المهم أن يأتي إلى السنة الدراسية الجديدة حاملًا شهادة أداء الخدمة.

 

عدتُ إلى ثانوية المخيم، كما يعود المنفيّ، لأتعرّف إلى بنات تفوح منهن رائحة الريف، وسأتوقّف كثيرًا عند ابنة أحد الأعيان (حتّى في المخيمات ثمة أعيان) التي يُعرف عن والدها حبّ القراءة، ولهذا ستنجح حيلتي في الاستعراض أمامها بكتبي البائسة، لكنّها ستفاجئني بأنّها لم تستطع أنْ تحبّ الكتب، ومن بين كتب أبيها لم يلفتها إلّا "المصابيح الزرق" بسبب عنوانه، ولأنني كنت واقعًا تحت تأثير الحكمة السخيفة أنّ كلَّ فتاةٍ بأبيها معجبة، كان عليّ، بشكلٍ ما، أن أطلب منها الكتاب لأفعل ما لم يفعله أبوها، أن أقرأه وأحكيه لها.

 

ما لم يكن في حساباتي أنّ القراءة ستنسيني الحبّ والفتاة والصراع الطبقي داخل مجتمع المخيم من هول صدمتي بالبطل، حين لم يتوقّف عن إطلاق شتيمة "يلعن دينك" في وجه الجميع، إذ كنتُ أظنَّ أنّ الأدب لا يكون مثاليًّا وحسب، بل ضدّ هذه السفاسف قبل أي شيء، فالله يقرأ الروايات أيضًا.

                                              

ما بقي فيّ أنّ حنا مينه أوّل من هدم ذلك الوهم.

 

في الثامنة عشرة، سأعاود اللقاء بأستاذي مصلح مصلح، وسيكون التحرّش به سهلًا بعدما صار يعمل عملًا إضافيًّا في بقالية أخيه، ولهذا لن أحتاج إلى التذّرع بلقائه أكثر من ادعاء الشراء، وقبل أن يناولني طلبي سأسأله السؤال الذي يصيب مقتل أي قارئ في العالم: "ماذا تقرأ؟"، وبمجرّد الحديث سأنتقل من وضعية الزبون والتلميذ السابق إلى صديق.

 

لصداقة مصلح قوّة الكتاب، فالرجل دفع ثمن أفكاره المتمرّدة جَلْدًا اجتماعيًّا ونبذًا وبذاءة من الناس، حتى بات يُقرن بالشيطان.

 

سأسأله، خلال جلساتنا الأولى، عن علاقته بالشعر، وسيخيّب أملي حين يخبرني أنّه لا يقرأه منذ زمن طويل، باستثناء بعض الشعراء، لأنّه لا يجد فيه ما يجده في كتب الفكر والروايات، وحين أذكّره بقصيدة الصف الخامس عن الرجل المريض على سرير المستشفى، سيقول كالسكران: "أمل دنقل، أوراق الغرفة 8، هذا أحد كتبي المفضّلة". وحين يستظهر مقطعًا من القصيدة القديمة سوف يقذفني في الزمن لأصير غبارَ طبشورٍ على سبورةٍ أمام تلاميذ ملولين:

"تتحدّث لي الزّهرات الجميلةُ

أنّ أعينها اتسعت - دهشةً -

لحظةَ القطفِ

لحظة القصفِ

لحظة إعدامها في الخميلةْ.

تتحدّث لي

أنّها سقطت من على عرشها في البساتين

ثم أفاقت على عرضها في زجاج الدكاكين

أو بين أيدي المنادين

حتى اشترتها اليدُ المتفضّلة العابرة".

 

سمعتُ عن عملٍ في ورشات قطاف الثوم. التحقت بها وعملت أيامًا كافيةً لشراء "ديوان أمل دنقل".

 

سوف يكون كتاب "الحقيقة الغائبة" لفرج فودة كتابي الشخصي. قدّمه مصلح قائلًا إنّ مؤلفه قُتِل بسببه، ولأنّه صغير الجحم أنهيته في ليلة واحدة، لكنّها واحدة من أسوأ ليالي حياتي، إذ دخلتُ في صراع عنيف مع نفسي، وضِعتُ في دوامة من الحيرة. كرهتُ مصلح، شعرت أنه شيطان فعلًا يقدّم كتابًا مسمومًا ليقضي على علاقتي مع الله.

 

عندما عدتُ إليه غاضبًا، أخذني بحلمٍ أبويّ وراح يناقشني في مضمون الكتاب، ولعلها المرة الأولى التي يفتح فيها أحدٌ لي مغاليق الكلمات والمعاني والأفكار، ويذلّلها بذكاء مثير للإعجاب.

 

عدتُ إلى غرفتي لأصير حلبة صراع للأفكار، وعلى ضوء آرائه شعرتُ بهشاشة ما تربّيت عليه، ذلك أنّني أخذته عن أهلي كما أخذوه عن أهلهم، الذين أخذوه عن أهلٍ آخرين، دون أن أضع شيئًا منه أمام أية أسئلة، وقتها فهمتُ لماذا قال لي، أثناء النقاش الساخن، إنّه لم يعطني الكتاب لكي يغيّر قناعاتي، بل ليقول لي إنّني لن أكون شاعرًا أبدًا ما لم تكن لدي أسئلة.

 

درس مصلح أنَّ هناك حقيقةً غائبة على الدوام، ولن نصل إليها إلا بإخضاع الحقائق الحاضرة أمامنا للمساءلة والتحقيق والفحص والتشريح، ليس لكي تتكشّف عمّا هو غائب أو مغيّب، بل لتكشف كذلك لماذا غُيّب.

 

إذا كان الكتاب يقول باستحالة قيام دولة إسلامية بوصفها حلًّا لمشاكلنا كلها، كما تطرح التيارات السياسية الدينية، فإنّ في المسلمين الأوائل عبرةً، حيث فيهم من أخطأ، وفيهم من مارس الفساد، وفيهم من أشعل حربًا أهليّة لا نزال نصطلي بنارها.

 

لا وجود لله. حسمتُ خياري وذهبت إليه في الدكّان لأخبره بما توصّلت إليه، فقرّر الاحتفال، وأخرج من أحد الأدراج قنينة خمر، وسقاني الكأس الأول في حياتي.

 

أتذكّر الآن أنّه لا أسماء للمعلمين، فدائمًا ما نستدّل عليهم بالتوصيف: أستاذ الرياضيّات، أستاذ اللغة العربية، أستاذ العلوم. فقط عندما نحبّه يصبح للمعلم اسمٌ.

 

لا أروي حكاية المكتبة، بل مخاضاتها، فهي لا تولد دفعةً واحدةً إلا عند من يولدون ليرثوا مكتباتٍ بناها آباؤهم. أما نحن الذين نولد في بيئات لا تقرأ فنبني مكتبات ونهدمها مرارًا، إلى أن نصل إلى تلك الكتب التي يأخذنا التعلّق بها إلى كتبٍ أخرى. وقتها فقط نضع حجر الأساس في حياتنا.

 

دأبت أمي، كما أمهات المخيم، على استعمال الصحف في الأعمال المنزلية، ولهذا كانت تطلبها كلّ فترةٍ من جار موظّف في إحدى دوائر المدينة، يشتري يوميًّا صحيفة.

 

أقصّ الصّفحات الثقافية قبل تسليمها الصحف لأمي، وأقرأ مراجعات الكتب والحوارات والنصوص. تزامن انتقالي للدراسة الثانوية في دمشق مع صدور ملحق "كتاب في جريدة"، الذي فتح لي أبواب الأدب العربيّ المعاصر، وصرت أحتفظ بأعداده في أرشيفي.

 

دعاني جارٌ يعمل في أرشيف إحدى الفصائل الفلسطينية إلى منزله، وأراني كومًا من الصحف والمجلاّت، جمعها خلال ثلاثين سنةً من عمله. كانت الأوراق الصفراء المتراكمة على رفوف معدنية تغطي الجدار. المفاجأة أنّه عرض عليّ أخذ الأرشيف لأنّ زوجته تنوي حرقَهُ. قبلتُ فورًا واستنفرت إخوتي إلى النقل.

 

قضيتُ شهورًا في القراءة وقص المقالات التي تستهويني من الصحف، أما المجلّات التي تأخذ الثقافة فيها حيّزًا واسعًا فاحتفظتُ بها كما هي، خصوصًا أعداد معينة من مجلتي "الحرية" و"الهدف" الفلسطينيتين، في الفترة التي جمعتا فيها مجموعة من كتّاب سأظل أحبهم: عبد الرحمن منيف، وفيصل درّاج، وسعد الله ونوس، وممدوح عدوان.

 

جمعتُ الملّفات والمقالات الشعرية بعضها إلى بعض، وكذلك فعلت بخصوص الملفات الفكرية والفنية، كما جمعتُ مقالات وحوارات كلّ كاتب معًا، وقضيتُ سنواتٍ في غرفةٍ تنافس أرشيفات مراكز الأبحاث، لكنني حين جاء الإنترنت إلى البلد ارتكبتُ أكبر حماقاتي على الإطلاق، إذ حملت الأرشيف إلى برميل فارغ وأحرقته على دفعات، على اعتبار أنّ ما جمعته باتَ متاحًا لي على الشبكة العنكبوتية.

 

مع الدفعة الأخيرة في المحرقة، التفتُ جهة البرميل لألقي نظرة الوداع الأخيرة، فشاهدتُ ملحقًا ثقافيًا اشتريته، كما لمع في الذاكرة لحظتها، في يوم ممطرٍ من أيام الدراسة الثانوية، ولشدّة ما ناله من ماء يومها بات مجعلكًا بحواف كمُّونية. ضغطته بيدي لتناله النار المشتعلة تحته، وقلت في سرّي متشفيًّا إنك شربت ما يكفي من الماء وآن لك أن تتذوّق نكهة النار.

 

ذبحت الأرشيف الذي ربيته ورقةً ورقةً، ولم يداخلني شعور الإجرام إلا الآن. لهذا لا تسألوني لماذا لم أعد أرى أوراق الصحف والمجلات، على مساندها في الأكشاك أو بين أيدي القرّاء، إلا ملتهبةً.

 

كلَّ يوم، أتأمّل الصورة التي في موبايلي. أكبّرها وأقوم بعملية جرد، وسرعان ما أقلع عن تلك الحماقة حين يخطر لي أنّ في مرئيّ المكتبة لامرئيًّا يفوقه حجمًا واتساعًا، يشمل ما حذفناه من رفوفنا بعد تغيّر اهتماماتنا، وما سُرق منا، وما استعرناه من مكتبات عامة أو أصدقاء وأرجعناه. إلى هذا اللامرئي أضيف رائحة ثياب أمي، ووجه فتاة الثانوية، وقنينة خمر الأستاذ.

 

لم أشأ أن تعيد المكتبة التي أسّستها في ألمانيا مكتبة المخيم، رغم الحاجة إلى ما تحتويه الأخيرة، لسبب بسيط للغاية وهو أنني أعتبر الثانية تكملة للأولى، وكلّي يقين أنهما سوف تلتقيان.

 

أقصى ما تقودني إليه أخيلتي الآن، أنّني أحمّل على جهاز الآيباد كتابًا من تلك الكتب التي تركتها دون قراءة، وأترك يدي في ألمانيا تقلّب على الشاشة كتابًا في بيتنا المهجور في سوريا.

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

قارئٌ منفي وإستراتيجياته

المكتبات العامة في المنفى.. سيرة للحضور العربي الناقص