23-يوليو-2021

من أعمال إيلي طحان

لم يعد إيلي طحان يرسم أو يصور. هذا اعتراض جوهري على الرسم والتصوير. بالكاد يقبل أن يكون نحاتًا. المنحوتة بالنسبة له أكثر صدقًا من اللوحة أو الصورة، لأنها تملك أبعادًا أكثر. أعماله الأخيرة هي اعتراض على الوجوه. ليس الوجه الذي يمدحه إيمانويل لفيناس بوصفه اختصارًا لوجود الآخر يدعونا، نحن الناظرين، إلى اعتماد سلوك إنساني حياله، كسلطة مجردة من القوة. ربما يكون غياب الوجه الذي يتحدث عنه لفيناس هو الذي حدا بإيلي طحان إلى سلوك هذا المسلك المعترض. الوجوه اليوم، في زمن طغيان الصور الثابتة والمتحركة، لم تعد تدعو الناظر إلى اعتماد سلوك إنساني حيالها.

ما إن يُعرض الوجه في معرض فني حتى لا يعود خصوصيًا. يصبح تعريفًا للوجه، والجسد يصبح تعريفًا للجسد

إنها تدعونا في معظم الأحيان إلى الإعجاب بها، الغيرة منها، والرغبة بامتلاكها. ثم إنها تتشابه على نحو لا يعود ممكنًا معه تمييز أصحابها. كما لو أن الوجه المعاصر يحاول تغييب الجسم الذي يحمله، ومنعه من التعبير عن معاناته وإطلاق نداءاته.

اقرأ/ي أيضًا: معرض سارة شعَّار.. قول الشيء ونقيضه

لكن المنحوتة الناقصة وجهها ليست أيضًا مما يمكن اعتباره مقصدًا عند طحان. إنه يغلفها ويضيف إليها. تنحو هذه الأعمال، التي يصنعها الفنان من مواد متروكة ومهملة، إلى الظهور بمظهر المساكن، أو البيوت. مضيفًا إليها الكثير مما يوحي بقدرتها على احتضان أجسام ووجوه. لكن الوجوه تبقى محجبة على الدوام، لأن سفورها لا يقول شيئًا سوى أنها تتشابه على نحو مضجر.

هل كان يمكن لإيلي طحان أن يرسم وجوهًا متعبة وتخص أصحابها؟ واقع الأمر أنه فعل ذلك من قبل، صوّر ورسم وجوهًا وأجسامًا تخص أصحابها أحيانًا أو تعبر عن حالات خاصة وشخصية تمر بها هذه الأجسام والوجوه. إنما ماذا بوسعنا أن نفعل لنحافظ على خصوصية هذه الوجوه والأجسام والناس الذين تعرّفهم؟ الصورة، والعرض الفني أيضًا يستطيعان أن يفسدا كل خصوصية. ما إن يُعرض الوجه في معرض فني حتى لا يعود خصوصيًا. يصبح تعريفًا للوجه، والجسد يصبح تعريفًا للجسد، على الأقل تعريفًا لنوع من الأجساد أو الوجوه. تعريف ليس شاملًا طبعًا، لكنه تعريف عام: هذا وجه عامل متعب: كل العمال يتعبون وتصبح وجوههم شبيهة بهذا الوجه. وهذا جسم امرأة مرت عليه صروف الزمن والعوز والتعب والشقاء: أيضًا ثمة ملايين النساء اللواتي مرت عليهن مثل هذه الصروف والنوائب، وصورة الجسم المعروض هي صورتهن جميعًا. هكذا يجد الفنان نفسه في المأزق. كل مرة يحاول الخروج من هذه العمومية نحو خصوصية ما، احترامًا للموضوع والذات التي يعمل عليها، واحترامًا لدوافعه لتمثيلها أو التعبير عما يجيش في خواطرها. لكن العرض الفني غالبًا ما يسرق منها خصوصياتها ويضعها في نمط ومرتبة وجنس ونوع.

الأعمال الأخيرة التي أنجزها طحان معقدة. لا يمكن اختصارها، ولا تتضمن مواد تزينيية. "المنحوتات" هذه تتكلم وتضيء وتدور على نفسها

الأعمال الأخيرة التي أنجزها طحان معقدة. لا يمكن اختصارها، ولا تتضمن مواد تزينيية. "المنحوتات" هذه تتكلم وتضيء وتدور على نفسها، وتتشكل من مواد لا حصر لها وكل مادة من هذه المواد لها تاريخ شخصي، مجهول، إنما قائم وحال ولا يمكن نكرانه. باختصار شديد هذه منحوتات ترفض أن تتعرض للعرض والتصوير. وهذا في حد ذاته معضلة كبرى. إذا كيف يمكننا التعرف عليها؟ كيف يمكننا معاينتها وسماعها من دون تصويرها أو عرضها؟ الأرجح أن الفنان نفسه لا يملك جوابًا على هذا السؤال. لكن ذلك لا يعفينا من محاولة عرضها. حيث يصبح الكلام، اللغة، الخطاب، هو الطريقة الأنسب لتصويرها وعرضها. وبكلمة أوضح، هذه أعمال فنية تريد تحويل الكلمة إلى صورة، وترفض أن تسجن في سجن الأعمال البصرية فقط.

اقرأ/ي أيضًا: الفنانة التونسية ريم سعد: أن تحمل دفترًا هو أن تحمل نفسك

إيلي طحان فنان وسائط متعددة يعيش ويعمل في باسادينا، كاليفورنيا. يستخدم تقنية البناء والتجميع في أعماله المتأخرة وغالبًا ما يكون مزيجًا من الأشياء المتروكة والعناصر المصممة خصيصًا للعمل مضيفا إليها مطبوعات ثلاثية الأبعاد ومحركات ومصابيح LED لإنشاء طبوغرافيا منفصلة. ويرفق هذه الأعمال مع مواد سمعية بصرية وموسيقى تصويرية ومقاطع فيديو.

 

اقرأ/ي أيضًا:

شوقي شمعون.. سماءٌ مزهرة

أعمال منصور الهبر.. أن ترسم ما ألمَّ بك