28-مايو-2021

الفنانة التونسية ريم سعد

اختارت أن تكون رائدة في مجالها، من جيل جديد يريد أن يحيا بألوانه وأفكاره، حرّة متحرّرة لا تنتمي إلا لنفسها وعوالمها التي تخلق، وعندما تسألها من أنت؟ تقول "أنا إنسان من كوكب الأرض"، هكذا تعرّف ريم سعد الفنانة التشكيلية التربوية، نفسها.

ريم سعد: "لا طقوس لي، يكفي أن أتنفّس الحياة كما فني بكل حرية، فأنا ألد الألوان التي تلدني"

هي مؤسسة لـ"شمعدان الورشات المتنقّلة"، فكرة تعكس فلسفتها للحياة، ومنظورها للفن، في هذه الورشات المتنقلة يصبح الفضاء، كل الفضاء، ملكًا للفنانة تراه بألوانها وأسلوبها وتقنياتها وتحمله معها أينما ذهبت، في الساحات العامة، في المسارح، في المعالم والمواقع الأثرية، في المكتبات، في مدارس الأطفال، في الأحياء وحتى في المقاهي الشعبية.. أينما ذهبت خطاها، في المدن والقرى والأرياف.. إذ تعتبر ريم سعد أنّ:"الفنان يحمل عالمه أينما ذهب".

اقرأ/ي أيضًا: شوقي شمعون.. سماءٌ مزهرة

وعن طقوسها التي تخلق، تقول إنّ "لا طقوس لي، يكفي أن أتنفّس الحياة كما فني بكل حرية، فأنا ألد الألوان التي تلدني، وأخلق الألوان التي تخلقني، وأرى الألوان من داخل "الخلايا" التي أرسم، كما أني أؤمن وأدرك أنّ كيمياء الألوان هي الأداة الإنسانية لمعرفة نفسها وفهم كنهها وسبر أغوارها واكتشاف خباياها، كذلك بهذه الكيمياء اللونية نخاطب الإنسان من داخله".

هذه الورشات التي تستعيد فيها ريم سعد صفة "الحرفية" رافقت كل معارضها الشخصية، حيث تعيد للدفاتر اعتبارها من خلال خلقها فنيًا وتشكيلها حرفيًا برؤية متفرّدة، حتى أنّ هذه الدفاتر المبتكرة أصبحت أقراطا تحملها الأذان، وهنا تقول "أقراط الدفاتر تختزل فكرة أن الإنسان حريّ به تعلّم فنّ الإصغاء، الإصغاء لنفسه، للآخر، للإنسانية والطبيعة.. أنا عن نفسي أستمع بكل جوارحي لا أذني فقط، فالحياة تتطلّب سماعها بأكثر من بصيرة.. ولكلّ لون بصيرة".

الأقراط التي تخلقها ريم سعد فنيًا وتصنعها يدويًا، تكون في شكل كتاب صغير، بالكاد يكون لها وزن حتى على الأذن، كتاب مسجّى ومغلّف بأقمشة تعيد للباس التونسي التقليدي أصالته وتألقه وفخامته، وعن سؤال لماذا اختارت الأقراط في شكل كتاب؟ تقول ريم سعد، "أريد أن أعيد الاعتبار للكتاب فنيًا وجماليًا، كما أنّي أؤمن أنّ الكتب هي من تبني جسورًا أكثر متانة نحو الآخر، وأننا بالقراءة نستطيع أن نفكّر أعمق، ونتسامح أكثر، وتزدهر أفكارنا أكثر".

وترتكز الدفاتر التي تبتكرها ريم سعد إبداعيًا وتجسّدها يدويًا أيضًا، على فلسفة قوامها "الرجوع إلى الذات من خلال الكتابة، فصفحات الدفتر البيضاء هي تفاصيلنا نحن، مواعيدنا، وأفكارنا، وأسرارنا، وقصصنا، هي بعضا منّا نتركه بين يد أمينة، ما نكتبه لا يمحوه النسيان، يذكّرنا من نحن؟ وماذا نريد؟ الكتابة في الأخير فعل حياة، والدفتر أقرب للإنسان وأنقى وأفضل، أن تحمل دفترًا معك هو أن تحمل نفسك، ترتقي بها ولا تدعها تسقط أبدًا، والدفتر الذي أجسّد أدق أدق تفاصيله بيدي يجسّد كل هذا وأكثر، كما أنّي أضمّن الصفحة الأولى للدفتر لوحة من لوحاتي عسى أن نقرأ الفن أكثر من مرّة ونتأمله أكثر من مرة"، هكذا تقول ريم سعد.

تعتبر الفنانة التشكيلة ريم سعد نفسها من "الفنانين العمّال"، أولائك الذين يعيشون بفنهم ومن فنهم، وتقول "أنا أنتمي إلى هؤلاء"، فهي لا تستطيع إلا أن تعيش بفنها ومن فنّها كلّفها ذلك ما كلّفها، ومن هنا أتت فكرة شمعدان الورشات المتنقلة، فريم سعد بدأت حلمها، أو لنقل عملها بمجموعة من الأوراق والألوان المائية واختارت الفضاءات العامة مقرًّا لها.. خلقت ورشتها بنفسها وأخذت تتنقل بها حيث تشاء.. فالفن حسب ريم سعد "لا بدّ له أن يكتسح الفضاء العام حتى يألف الناس الألوان، والموسيقى وكلّ المشاهد الفنية واللوحات التعبيرية.. الفن يذيب عنف الشارع ويهدئه إلى حياة أكثر تسامحًا ومحبّة، فالفن يجب أن يكون للجميع وفي كل مكان، لأنه يبني ثقافة تؤسس للمعنى والقيمة، والثقافة تتشكل من القرب وفي الأحياء أيضًا، فحرّي بنا أن ندفع نحو ثقافة الحياة والمبادرة والحرية، ثقافة تملّك الفضاء العام، كي يتحوّل إلى فضاء إبداع يتملّكه أصحاب الفكر والجمال وكل من يريد أن يعتبر أن هذا الفضاء يُبنى على ثقافة الإبداع والمبادرة، على ثقافة الحياة والفعل والإرادة.

الكتابة في الأخير فعل حياة، والدفتر أقرب للإنسان وأنقى وأفضل، أن تحمل دفترًا معك هو أن تحمل نفسك

اقرأ/ي أيضًا: ريبال ملاعب.. الموسيقى والرسم وما بينهما

عن تقنية Aquarelles Introspectives

لوحات ريم سعد يتسارع فيها الخيال ليجسّد مجموعة من الترابطات الذهنية الحسيّة الذكية، هي الترابط البصري والمتبصر والمتنوّر لخلاياها التشكيلية. كما أنّ لها قدرة على التلاعب بمضامين عملها الفني، فالوحة التي ترسمها، كل لوحاتها، يمكن أن تراها بأكثر من صورة وبأكثر من شكل، بل يمكن أن تراها بالنور، وفي العتمة، يمكن أن تراها بالأشعة فوق البنفسجية، والمفارقة أنّ لوحاتها في العتمة تكون مشعّة تنبض نورًا وتقذفه إلى مرايا أرواح البشر، لذلك تلتقطه العيون التي تدرك فلسفة أن نضيء شمعة في الظلام، أو أن نصنع من المستحيل ممكنًا، وهنا تخلق الفنانة معنى من المعاني واتجاهًا آخر يجعلها تحمل بصمة فنية مبتكرة.

تستخدم ريم سعد في أعمالها تقنية، Aquarelles Introspectives  وهي تقنية مبتكرة أنشأتها وغدت رائدتها، تعكس مدى بحث تجربتها وفلسفتها وروح فنّها، تستبطن تمثّل الألوان المائية من جسد الخلية وروحها، تستبطن عمق الخلية التي تبنى من نبض الفنانة وتولد بريشتها، خلايا تغوص بها في عمق الجسد الإنساني بكل تمثلاته وأفكاره وتجلياته، تبدأ من الخلية وبها تنتهي، ليلتحم الماضي والحاضر والمستقبل، لنبصر الزمن من كيمياء الألوان.

 من خلال أعمالها تستطيع أن تشاهد بعينيك المجردة خلية تُسقى من الألوان وتقتات من درجاته، تولد من الماء لتزرع الورقة البيضاء جسدا أو بعضا من الجسد، فتكون الروح، وتُبعث الألوان، ليكون المخاض وتبدأ الحياة.. تستطيع أن ترى ذلك دفعة واحدة..

يعتبر البناء البصري للوحاتها من خلال هذه التقنية بناء فكريًا حسيًا روحيًا حركيًا في مزيج الفسيفساء المائية، والحركة في البناء لا تتوقف، والخلايا تستمر بالتشكّل دائمًا وفي كل الاتجاهات، وحتى في الفراغ معنى..

لوحات ريم سعد يتسارع فيها الخيال ليجسّد مجموعة من الترابطات الذهنية الحسيّة الذكية، هي الترابط البصري والمتبصر والمتنوّر لخلاياها التشكيلية

تمتاز ريم سعد بالذكاء في مجال التنظيم السلس والمركّب للألوان، تجعل المعقّد سلسًا والمركّب مرنًا، وتخلق تركيبات لونية جديدة ما يولّد لدى المشاهد مزيجًا من التأمّل والتساؤل والبحث، مزيجًا من الانفعالات والأحاسيس، فالفن يخلق هذا أيضًا. 

اقرأ/ي أيضًا: حسّان بورقيّة.. مبدع الأساطير الذي تمتزج خطاه بالظلال

تعتبر ريم سعد أنّ تجربتها الفنية هي أيضًا نبض تجربتها الروحية، "أين يشعّ إلهام ما، وتجلي ما، أين ينفتح عالم ما، أين تدبّ الحياة دفعة واحدة"، ربما يتجلى ذلك في لوحاتها، ففيها ترى خلق الفنان وعوالمه، أين ينكشف سرّ الخلايا حتى في الظلام الداكن، خلايا تشعّ من جديد إبان انعدام النور.. خلايا تخزّن النور داخلها حتى مجيء الظلام الذي لا مناص منه، لتنبئنا أنّ الألوان حية لا تموت.. فعندما تسلّط الضوء الأسود على لوحاتها، تتغيّر الصورة لتتشكّل من جديد.. ترى في لوحاتها حركة دائمة وعوالم متحرّكة، متداخلة، متشابكة، متجانسة، متناثرة، متناسقة، في ثنائية البعث والخلق حيث تستمدّ الحياة، حياة من بعضها البعض.. فخلق اللوحة يحتاج لانتقاء عميق ومتأمّل ومتبّصر للألوان وفيض صادق وجريء من الإحساس.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ناصر حسين: حياة ممكنة

شياما جولدن-بروكلين: أحب رسم الوجه كما لو كان خريطة