27-مايو-2017

لقطة من الفيلم

في سنوات سابقة، تعددت الأفلام اللبنانية التي تناولت موضوع الخادمات الأجنبيات في المنازل، لكن لا فيلم منها يشبه فيلم "مخدومين" لماهر أبي سمرا. ربما ذهبت كارول منصور إلى سريلانكا لتصوّر الاستغلال الإنساني للخادمات من منبعه، وربما فعلت ديما الجندي أمرًا مشابهًا بكشفها عن أوضاع معيشية أسوأ تختبرها العاملات من تلك التي خلّفوها في أوطانهن، ولكن ماهر أبي سمرا لم يبارح بيروت واختار لكاميرته وأصوات تحمل حياة الآخرين مسؤولية سرد قصة الخراب اللبناني المتجلّي في أوهن الأمور كما في أعظمها.

تعددت الأفلام اللبنانية التي تناولت موضوع الخادمات الأجنبيات في المنازل، لكن ولا فيلم منها يشبه "مخدومين" لماهر أبي سمرا

في فيلم "مخدومين" ينطلق ماهر أبي سمرا في سرد متقشّف لواقع إنساني راهن من موقعه كـ"مخدوم" في بلد تحتل فيه الخادمات المنزليات الوافدات موقعًا مهمًا ومهملًا في آن واحد من البناء الاجتماعي، ويتعرّضن لشتّى أنواع العنف والقسوة والظلم، ويعشن أوضاعًا مزرية، ما يدفع بالكثيرات منهن للهرب أو الانتحار. وفي لبنان، يمكن ردّ كل الأمور إلى الحرب، أو إلى الطائفية، أو إلى التباينات المناطقية والطبقية والثقافية، وبالتالي تنفتح مسارات إضافية أمام حكاية الفيلم لتذهب به إلى مقاربات سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية وأيديولوجية.

اقرأ/ي أيضًا: الحياة التي اختارها تيرانس ماليك

كان ماهر أبي سمرا محظوظًا بعض الشيء وذكيًا في أغلب اختياراته في فيلم "مخدومين"، كما حاول التغلّب على كل المعوقات التي يمكنها تعطيل الفيلم أو القضاء عليه قبل أن يبدأ، فأوقعته الصدفة للالتقاء بأحد وسطاء تشغيل الخادمات الأجنبيات قَبِل التعاون معه لإنجاز فيلمه، واستعان بأصوات لمجموعة من أصدقائه ليركّبها على مجموعة من الجمل المبنية على حوارات متعددة مع مخدومين لبنانين رفضوا بدورهم الظهور على الشاشة ولو بأصواتهم فقط، واختار تثبيت الكاميرا في مكتب الخادمات ليمنح أريحية أكبر لطاقم المكتب ويُشهدنا على عبودية يومية تتوالى فصولها في أبنية مصمتة ترصدها الكاميرا بكادرات أفقية ورأسية مبيّنة خواءها والشقاء الرابض في أركانها، بينما الفتيات الضحايا يغيب حضورهن عن الشاشة إلا من طيفٍ عابر أو كلمات غير مفهومة تأتي من خارج الكادر، ليظّل الفيلم بعيدًا عن "الصعبانيات" واستدرار الشفقة، من غير أن تغيب أوجاع الفتيات الوافدات وتوقهن عديم الحيلة للإفلات من حياة ليست كالحياة.

مشهدية فيلم "مخدومين" هي أقوى ما فيه، سواء كان ذلك بمشاهد باردة وهادئة لعمارة بيروتية تخفي الكثير من القسوة والبشاعة، أو برسمٍ متشعِّب على واجهة مكتب وسيط تشغيل الخادمات يكشف هول الآلة الجبّارة التي تقف وراء هذا "السيستم" الظالم.  يسرد ماهر أبي سمرا بصوته حكاية متخيّلة عن "الست سلمى"، التي تحولت من خادمة شغّلتها البعثة البابوية حين كانت تمدّ اللاجئين الفلسطينيين بالمساعدات بعد عام  1948 إلى صاحبة أول مكتب لتشغيل الخَدَم في لبنان عام 1960.

اقرأ/ي أيضًا: السيسي في السينما.. كل ما نعرفه عن فيلم "أيام الغضب والثورة"

كان المكتب يشغِّل ما بين 5 و10 آلاف فتاة سنويًا، قدمن من فلسطين وسوريا ومصر بالإضافة إلى اللبنانيات، ويتعامل مع مختلف فئات المجتمع اللبناني، إلى أن انفرط "بزنس" الست سلمى مع بدء وفود الخادمات السريلانكيات في أواخر السبعينات، بعد سنوات قليلة من بداية الحرب الأهلية اللبنانية وقبل سنوات قليلة أيضًا من بداية الحرب الأهلية السريلانكية.

في الأثناء، تحيلنا "الست سلمى" إلى شروط ومميزات الخادمة الجيدة، فيفضّل أن تكون صغيرة السن، مراهقة على الأغلب، صموتة، ويسهل التعامل مع وجودها كشيء غير مرئي في المنزل؛ وبعطف حديث سلمى على أحاديث الزبائن المخدومين تتكوّن صورة مقرَّبة لذلك الكائن المُشيَّأ الذي تُقبل أغلب العائلات اللبنانية على "امتلاكه".

يكشف فيلم "مخدومين" التركيبة الطبقية والمناطقية والطائفية  المعقدة للبنان، لكنه لا يستكف بالتوقف عندها

لكن يبدو أن المخرج ماهر أبي سمرا لم ينس شيوعيته القديمة، فنراه يختم فيلم "مخدومين" بما يشبه مانفيستو يطرح قضية اليد العاملة وغياب حقوقها المهنية والإنسانية في إطارها العالمي، عندما يربط بين فيلمه وبين كارثة انهيار مصنع ملابس لأحد الماركات العالمية في بنغلاديش أودى بحياة أكثر من 1135 عاملًا.

غير أن حالة النقاش والتساؤل التي يحرِّض عليها الفيلم في مسألة العمالة الوافدة، والرخيصة بشكل عام، والسرد البصري الذي يختاره فيلم "مخدومين" ودمجه لتقنيات الوثائقي بالروائي والسجالات المتنوعة التي يحمل الفيلم أبوابًا للشروع فيها، كل هذا يحثّنا على حوار ضروري ونقاش يستهدف محاولة أكبر لفهم مأساة تبدو أبعادها أكبر بكثير من حكايات أولئك الفتيات اللواتي أوقعهن حظهن العاثر لأن يصبحوا سبايا عصر جديد في بلدٍ يحيا على شفير هاوية محتملة في أي لحظة، ويستنكف أغلب أفراده عن الاعتراف ببؤس اختياراتهم وعنف سلوكهم تجاه الغرباء.

 

اقرأ/ي أيضًا:

فرقة "مونتي بايثون" وكوميديا أفلام السبعينات التي لن تتكرر

فيلم "أشباح إسماعيل".. سرد الهزات العاطفية