21-مايو-2017

لقطة من الفيلم

يحكي الفيلم الفرنسي Les fantômes d'Ismaël للمخرج أرنو ديبليشان حكاية هزات تصيب عالم البطل وتهشمها، كما وتترك وراءها الكثير من الأسرار والغموض.

الفيلم الذي افتتح به مهرجان كان السينمائي لهذا العام، تاركًا جمهور المهرجان والفيلم مترددًا حول استئثاره بالإعجاب أو اعتباره بداية عادية لمهرجان احتفالي منتظر من عامٍ لأخر. كما وجر معه أسئلة كثيرة حول اختيار الفيلم الجديد للمخرج الفرنسي أرنو ديبليشان بعدما رفضت لجنة المهرجان مشاركة فيلمه "ذكريات شبابي الثلاث" في دورته الرسمية عام 2015.

يحكي الفيلم الفرنسي Les fantômes d'Ismaël للمخرج أرنو ديبليشان حكاية هزات تصيب عالم البطل وتهشمها، وتترك ورائه الكثير من الأسرار

أشباح إسماعيل العاطفية وأشباح الماضي وما تفرضه من ذكريات على حاضره البسيط الذي أخذ يستعيد عافيته بعد العواصف، إلى جانب أشباح فنية وأشباح المهنة التي تسيطر عليه، هي كلها تتشكل تباعًا على طول فيلم مضطرب كشخصيته الرئيسية، والتي نعيش معها وقتًا طويلًا ورتيبًا ينتهي كما بدأ، ونذهب معه إلى المفاجأة والفرح والغضب السريع والعزلة.

إسماعيل مخرج أفلام فريد من نوعه، عفوي ولكن مضطرب بعض الشيء، يصور فيلمًا إشكاليًا إلى حد ما عن شخصية دبلوماسي استوحاها من أخيه، هذا الدبلوسي مضطرب أيضًا ما يوقع الشك في قلوب من يعملون معه في الخارجية الفرنسية.

فغرابته تؤشر على إمكانية أن يكون عميلًا. إلى هنا وما زلنا بوتيرة فيلم إسماعيل السريع الذي يستعرض علينا اجتماعات عمل في مكاتب الخارجية وجلسات نميمة سرية مفتوحة للعملاء في المطاعم. الجميع يتحدث مع بعضه البعض الثرثرة تملأ المكان وتعطينا إحساسًا غريبًا بالاضطراب.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم رحلة إلى إيطاليا.. زواج متداع يؤسس لموجة سينمائية جديدة

هذا ليس حال سيلفا "شارلوت كروزنبرغ" كممثلة لايمكن أن تنسى أثرها في أفلام لارس فون ترير الإشكالية، وقد ارتبطت ملامحها بحالات الحزن الشديد، والشبق. أمّا كشبح من أشباح إسماعيل فهي التعبير المجرد عن الراحة والاستقرار في حياته، صديقته الجديدة التي تتعرف عليه في اجتماع للأصدقاء فيثير فضولها الصمت والغموض في حالة إسماعيل الساكن دائمًا في حال كان بعيدًا عن فيلمه.

بعد مرور عامين على لقائهما يقعان في الحب، كصديقين يحترم كل منها الأخر، تفسح له مجالًا لكتابة الأفلام المجنونة، كما وتكون الوجه المشرق لحياته الخاصة، في أحد الأيام يصفعها صوت أنثوي لإحداهن جاءت لتسألها خلال استلقائها على الشاطئ بالقرب من عزبة اسماعيل عند البحر.

"هل أنتِ سيلفا صديقة إسماعيل، أنا كارلوتا زوجته". كالعودة بعد الموت نستطيع تخيل حجم الأثر الذي ستتركه عودة تلك المرأة التي تركت زوجها دون أن تعلن عن غيابها لأكثر من عشرين عامًا، لتعود اليوم تسأل عنه وتحاول استرجاعه لحضنها والسبب هو الحب.

هذا الغموض الذي حضر بثقله على فوضى حياة إسماعيل وأعاد قلبها رأسًا على عقب، يجثم على قلبه الذي كان قد نسيها ونسي شبحها بعد كل هذا الوقت. ودون أي فهم لحاجة الزوجة للاختفاء، يدفعنا الفيلم لتقبل هذا الغياب الغامض وما تلاه من ارتباكات نفسية وانفعالية.

تصرّ الممثلة ماريون كوتيار بلطافتها وظلها الخفيف على التمسك بزوجها المتروك، في واحد من أدوار كثيرة أجادت تأديتها حول المرأة العاطفية المحبة القوية والتي تتابع صراعها رغم معرفتها بالخسارة.

ومن خلال ذلك استطاعت بث روحها وأثرها في كل جزء من البيت، كما لم تخلق هذه العودة تنافرًا معلنًا بينها وبين سيلفا بمقدار ما بعثرت أوراق علاقة الأخيرة بإسماعيل التي كانت حتى عودة كارلوتا بسيطة هادئة.

تصرّ ماريون كوتيار بلطافتها على التمسك بزوجها في فيلم Les fantômes d'Ismaël، في واحد من أدوار كثيرة أجادت تأديتها

كما ولم تفسح هذه العودة التي ملكت ظروفها كارلوتا مجالًا لطرح أسئلة حول سببها، وفتح الملفات القديمة والاستفسار.

في المقابل كل م اقامت به سيلفا هو الإنصات والمتابعة، وكأنها رقيب يدوّن بصمت انطباعات وأثر وجوده بين شخصين انبثقت الحياة أمامهما على نحو عنيف، وتلوح بينهما أشباح الحب والماضي الدفين.

إسماعيل لم يُقم جنازة لكارلوتا قبل عشرين عامًا، ولكن السلطات أرادت ذلك، فصنفتها مع الأموات، هذا ما أربك عودتها الفعلية إلى الحياة، "هل استطيع إرجاع زوجي؟ " لاجواب على سؤالها عند الموظفة ولا جواب عند إسماعيل نفسه.

كارلوتا التي لقيّت الصد من الزوج ستجرب مع والدها الذي بقي خلال تلك الأعوام صديقًا ومعلمًا مقربًا من إسماعيل. تقف كشبح يراوغ بين البكاء والابتسام، ينظر إليها من نافذته ويتلوى من الألم، حتى الأب لا يبدو مسامحًا بل هو كليةً غير مصدق وغير مؤمن بتلك العودة الصادمة.

اقرأ/ي أيضًا: "الوعد".. حب ومذابح في خريف الإمبراطورية العثمانية

كارلوتا المتروكة جزئيًا بدون حلول عاطفية، لم تستطع تحويل علاقة سيلفا وإسماعيل عن الحب، فبعد أن هربت سيلفا وهرب إسماعيل من عزبته البحرية إلى عزبة أكثر انغلاقًا وسوادًا، حين راح يقوم بنبش الصور والذكريات في عليّة بيته العائلي، مستحضرًا أخاه من خلال ملصقات التماثيل والمنحوتات، ومستكملًا فيلمه المجنون الذي لم يبتعد به بعيدًا عن الاضطراب.

يحمل فيلم ديبليشان أجواء السيرة الذاتية الثقافية والعاطفية لبطله، على خطين دراميين متلاصقين يغذي بعضهما الآخر بالانتكاسات والآمال. مع حمولة ثقافية للفيلم بإشارات كثيفة.

يحمل فيلم ديبليشان أجواء السيرة الذاتية الثقافية والعاطفية لبطله، على خطين دراميين متلاصقين يغذي بعضهما الأخر بالانتكاسات

حيث تعشش أجواء الفيلم في عليّة إسماعيل في آخر جولاته مع الإبداع حيث تنفرد وتتشكل مجموعة من اللوحات العالمية بنسخ مصغرة على الجدران السوداء تلونها بمشهدية تدّعم اضطراب وتأزم اللحظة الفنية والشخصية لإسماعيل.

فلا شيء تقوله تلك الصور عن حلول مؤجلة. ويبدو أن مخرج فيلم الدبلوسي داخل الفيلم المضطراب قد أفلت العنان لجنونه وأطلق النار على منتج فيلمه الذي كان بطريقه للجنون لو لم تستقر الطلقة في زنده. بعد انتهاء فرادة الحالة التي كان يقوم بها إسماعيل، تصحيه سيلفا التي ستستقر معه دائمًا، وكأن تلك الرصاصة الطائشة شرٌ لا بد منه لقتل أشباحه والتغلب عليها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

فيلم الفتاة الدنماركية "The Danish Girl" وسؤال: هل تعيش ذاتك؟

إعادة نظر: Les Petits Chats.. الحنين لماضٍ ليس لنا