06-يونيو-2022
there is no evil

من الفيلم

لم أكن أعرف أن المشنوق يبول في ثيابه بعد أن يشد حبل المشنقة على رقبته فيعصرها. وبدلًا من انهمار دمع عينيه تتسارع المياه في جسده لإيجاد مخرج مناسب، فلا تجد أفضل من المسالك البولية لتنهمر منها، فيسترخي الجسد المفجوع بنفسه بعد عدة رعشات وانتفاضات، وقد باءت بالفشل كل محاولاته للفكاك من المشنقة وإنقاذ نفسه من الموت. لا صوت لا حركة لا نفس لا رفة جفن. صمت. قطعة لحم متهدلة إلى الأسفل كتلك القطع المعلقة عند الجزار بلا أدنى حركة.

كاميرا راسولوف الواقعية تشكل مراقبة دقيقة لكل تفاصيل الحياة اليومية البسيطة والاعتيادية لهذه الشخصية السينمائية والإنسانية على حد سواء. يدخلنا في متاهة فلا نعرف السبب من وراء كل هذا العرض

هذا الشعور ألقى به في نفسي فيلم "لا وجود للشيطان" (There Is No Evil) للمخرج الإيراني محمد راسولوف، ومن كتابته أيضًا، والصادر عام 2020، والحائز على عدة جوائز عالمية منها جائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين السينمائي الدولي 2020.

سينما الحكاية

يتضمن الفيلم (151 دقيقة)، أربع حكايات عن الإعدام يحكيها لنا كاتب العمل ومخرجه الإيراني محمد راسولوف المولود في مدينة شيراز عام 1972. يفتح راسولوف الباب أمام نقاشات أخلاقية وفلسفية وسياسية. وبالرغم من كون هذه النقاشات موجودة دومًا في المجتمعات وعلى مر الأزمان، إلا أن راسولوف حولها لسينما ونجح في مهمته بمهارة درامية عالية، فكانت هذه التحفة السينمائية. أربع قصص بموضوعات حاسمة تشي بمواقف أخلاقية حول عقوبة الإعدام وما تستدعيه من خيارات فردية تضع بموجبها الشرط الإنساني على المحك.

أربع حكايا، حكايتان تستكشفان حياة شخصين نفذوا الإعدام، وحكايتان تستكشفان حياة شخصين رفضوا تنفيذ حكم الإعدام. يستكشف الفيلم، الذي تم تصويره بالسر، إمكانيات الفرد للمقاومة في ظل نظام استبدادي. أربع قصص تتعلق بعقوبة الإعدام في إيران. في كل قصة، تواجه الشخصية المعنية بتنفيذ عقوبة الإعدام مأزقًا أخلاقيًا وصراعًا مع خياراتها وكيفية التعامل مع الموقف، فيما تشاهد الشخصيات تأثيرات خياراتها على حياة من هم مقربون منها كأطفالهم وأسرهم وأصدقائهم.

وكذلك يظهر الفيلم التأثيرات النفسية الأشمل على الأفراد نتيجة لموقف الجمهورية الإسلامية في إيران من الجريمة والعقاب المتمثل بعقوبة الإعدام، سيما وأن الموظفين المدنيين هم من يتولون هذه المهمة، وأحيانًا الشبان الذين يخدمون في السلك العسكري الإجباري. فيلم يمتلك قوة تراكمية تنمو مع كل قصة، ويرينا تباعًا أبعاد المسألة ومن زوايا مختلفة ووجهات نظر عدة.

القتل كعادة ميكانيكية

الحكاية الأولى مذهلة تثير الدهشة. يدخلنا راسولوف إلى حياة موظف من الطبقة الوسطى في إيران. رجل أربعيني متزوج من معلمة مدرسة. نعيش مع الشخصية حياتها اليومية أثناء توصيله لزوجته إلى عملها ومن ثم ذهابه إلى عمله، ومن ثم العودة لأخذ زوجته من المدرسة وذهابهما إلى المصرف ومن ثم للتبضع في السوبرماركت. تظهر لنا الحكاية الأولى علاقة الأبوين مع طفلتهما ومن ثم علاقتهما مع الجدة حيث ينظفان المنزل لها، يفحصان ضغطها، يقدمان الأكل لها. الزوج يصبغ شعر زوجته -وهو فعل قلما يفعله رجل لزوجته- فيا لها من إنسانية مفعمة ومن حب قوي ورجولة حاضرة في ساحة المرأة والأسرة يمارسها الزوج.

كاميرا راسولوف الواقعية تشكل مراقبة دقيقة لكل تفاصيل الحياة اليومية البسيطة والاعتيادية لهذه الشخصية السينمائية والإنسانية على حد سواء. يدخلنا راسولوف في متاهة فلا نعرف السبب من وراء كل هذا العرض لهذه التفاصيل اليومية.

ما الداعي لعرض مشهدية الأسرة وهي تأكل البيتزا في المطعم! تبدأ الأسئلة بالتزاحم عن لماذا يعرض علينا راسولوف كل هذه التفاصيل؟! وتأتي المفاجأة في المشهد الأخير من الحكاية الأولى: الزوج الهادئ صاحب الكثير من الصفات الحميدة، يجلس في عمله في غرفة كالمطبخ، جائع يبدأ بتحضير وجبة طعامه الصباحية، يغسل حبة البندورة وحبة الخيار، يضعهما في الصحن، ثم يتقدم صوب نافذة صغيرة بمحاذاتها لوحة مفاتيح وأزرار، يضغط على الزر ويلقي نظرة فاحصة من النافذة. لقد قتل للتو دزينة من الرجال المحكومين بالإعدام. يعود لمتابعة حياته اليومية!

يلتقط راسولوف تفاصيل حياة مرتكبي عمليات الإعدام العاديين، ويشارك مع المشاهدين تفاصيل حياتهم الحميمية الجميلة والمؤثرة مع عائلاتهم، آمالهم وأحلامهم ومستقبلهم

هناك تواطؤ ضمني من الزوجة مع زوجها ومتابعة للحياة الزوجية بالرغم من معرفتها بمهنة زوجها. هناك تواطؤ اجتماعي يصل حد النفاق المروع والصمت المطبق من المجتمع حيال المسألة. يتتبع فيلم راسولوف هذا الطيف من التواطؤ البشري في القتل الذي تقره الدولة. بدءًا من الإيمان الأعمى بأحقيتها في استخدام العنف، وقبول النبذ الأخلاقي للدولة للأفراد المتمردين على أحقيتها تلك، فلا يعود بالإمكان التشكيك أو مقاومة المبادئ التي نشأت منها هذه الأحقية المزعومة. فالإعدام صار مهنة في هذا النظام المستبد، والقاتل يتابع حياته الطبيعية، لكن راسولوف ينقل لنا عبر عدسته الصدمة والألم الساكن في أعماق هذه الشخصية والتأثيرات النفسية لهذه المهنة على الزوج.

يلتقط راسولوف تفاصيل حياة مرتكبي عمليات الإعدام العاديين، ويشارك مع المشاهدين تفاصيل حياتهم الحميمية الجميلة والمؤثرة مع عائلاتهم، آمالهم وأحلامهم ومستقبلهم، والحياة الدنيوية البشرية المألوفة اليومية التي يعيشونها. وهكذا يسحب راسولوف فكرة الأخلاق من حيز الثنائية، ثنائية الأبيض والأسود، إلى حيز ثالث رمادي، مثيرًا الأسئلة وفاتحًا النقاش على مصراعيه.

هل بإمكاننا نفي صفة الإنسانية عن منفذي عقوبة الإعدام؟! وهل الشر صفة متأصلة في البشر؟! وعندما نقول أن شخصًا ما ارتكب فعلًا شريرًا، فإننا نتخذ بذلك افتراضًا أخلاقيًا ذاتيًا ربما يكون خاطئًا! فهل كل من يقوم بعمل شرير يعتبر شخصًا شريرًا؟ يلقي راسولوف بهذه الأسئلة في وجهنا ضمن حكايته الأولى في الفيلم.

أوتوماتيكية القتل

يشير راسولوف في فيلمه هذا إلى أن الجحيم الذي خلقه البشر على الأرض من خلال التعذيب وسفك الدماء والقمع لا يتميز دائمًا بالضرورة بالميلودرامية الفخمة لشخصية الشرير الشيطاني البشع. بل يمكن بالأحرى الإقدام على فعل الشر من قبل أشخاص عاديين لديهم خيارات محدودة ومدركون جيدًا للثمن الذي سيتكبدونه جراء معارضتهم لتنفيذ الشر، لا بل ربما يخفف من وطأة الإحساس بالذنب اعتقادهم بأن أفعالهم تفيد المجتمع ككل.

في الفيلم نزعة ميكافيلية حيث "الغاية تبرر الوسيلة" لدى الفرد الذي ينوي عدم المجابهة مع النظام ومتابعة حياته بطمأنينة، وفقًا لقاعدة "أمشي جنب الحيط وأقول يا ربي السترة". إنه فيلم يطرح العلاقة بين الفرد وانتمائه إلى الجماعة، ومدى قدرة الفرد على مجابهة الثقافة المجتمعية أو الانغماس فيها بحلوها ومرها.

فيلم درامي يفتح النقاش على مصراعيه فلا يعود بالإمكان ضبط النقاشات المتأتية جراء مشاهدته، وربما مرد ذلك إلى التعمق السوسيولوجي المتخصص الذي درسه راسولوف في الجامعة وعيشه في مجتمع تطبق فيه عقوبة الإعدام بانتظام (إيران من أكثر البلدان تنفيذًا لعقوبة الإعدام في العالم).

فإلى أي مدى يمكن التعبير عن الحرية الفردية في ظل نظام استبدادي وتهديداته التي لا مفر منها؟ إلى مدى يمكن للفرد في ظل هكذا مجتمع أن يقول كلمة لا؟ أن يرفض. إلى أي مدى يمكن للجندي أو الموظف أن يرفض تنفيذ عملية الإعدام؟ وإلى أي مدى يكون هذا الرفض لأوامر السلطة السياسية بمثابة إعدام للذات ولحياة الجندي الرافض للتنفيذ؟ وإلى أي مدى هناك قابلية واستعداد لدى البعض كي يكونوا أدوات بيد الأنظمة لتأدية مهمات شريرة؟ وإلى أي مدى تؤثر هذه العملية الميكانيكية للقتل في الإنسان/القاتل أو منفذ عقوبة الإعدام ضمن هذه الأنظمة الأوتوماتيكية المبرمجة التي تسير وفق نظام محدد يصعب الفكاك منه!

هل من مفر؟!

في الحكاية الثانية يعرض لنا راسولوف قدرة الإنسان على التحكم بمصيره وبقراراته وخياراته في الحياة. الإنسان مسؤول عن أفعاله واختياراته. كل فعل سيتحمل الإنسان نتائجه. الفيلم مقاربة سارترية للحرية. ولكن لا مناص من الهرب من النظام ككل كي يتمكن الفرد من الاختيار بحرية. فالعيش في نظام مستبد سيجبر الإنسان بخيارات لا يريدها. فإما الهرب من النظام برمته والعيش خارجه وإما تنفيذ ما هو مطلوب من قبل النظام.

يبدد الفيلم الأسطورة القائلة بأنه يمكن للمرء أن يجرد نفسه من السياسة. الإنسان لا يمكنه اعتزال السياسة. فالسياسة تواجه الإنسان في كل يوم، مع كل مسألة وقضية. السياسة خبز يومي، والفرد مدعو لممارستها واتخاذ الموقف اتجاهها تأييدًا أو معارضة. راسولوف لا يترك مجالًا للفرد باعتزال السياسة. إنه يرمي بمسألة حساسة إلى حيز النقاش العام.

وكما يشير راسولوف إلى غنى الثقافة الإيرانية ونزاهة الإنسان الإيراني وتعاطفه وبطولته وتمرده على الجور والظلم. يصور الفيلم الطبيعة الإيرانية كالغابات والسهول والأشجار المزهرة وسحرها لتمتزج مع الإنسان الإيراني العاطفي والشاعري صاحب التقاليد العريقة والذي يواجه سطوة السلطة في أحيان كثيرة سعيًا وراء الخير والحب والجمال، كما في الحكاية الثالثة من الفيلم.

الإنسان حر

بدءًا من عنوان الفيلم "لا وجود للشيطان"، ينطلق راسولوف في رحلته لمعارضة المقدس ورمي الكرة في ملعب الإنسان. غياب الشيطان لدى راسولوف يمكن أن يستدل منه غياب الإله أيضًا، واستتباعًا غياب المقدس ومسؤوليته عن أفعال الإنسان وجرائمه أحيانًا. "لا وجود للشيطان" بالنسبة لراسولوف تعني بجلاء "وجود الإنسان".

يرتكب الإنسان المعصية والشر بإيعاز من الشيطان، ذلك الشيطان الجاثم على قلب الإنسان، لكن راسولوف يرى أن الشر ينتج عن الإنسان وقراراته واختياراته الحرة في الحياة

يرتكب الإنسان المعصية والشر بإيعاز من الشيطان، ذلك الشيطان الجاثم على قلب الإنسان، لكن راسولوف يرى أن الشر ينتج عن الإنسان وقراراته واختياراته الحرة في الحياة. ينفي راسولوف القدرة عن الشيطان وبدلًا من ذلك يعطي هذه القدرة للإنسان. ويصبح حينها الاختباء خلف المقدس والشيطان لتبرير الأفعال أمرًا منافقًأ. فالإنسان بيده يصنع نفسه بنفسه حسب ما يقول سارتر.

تفاهة الشر

أثناء تغطيتها لمحاكمة النازي البارز أدولف أيخمان، تواجه الفيلسوفة السياسية حنة أرندت سؤال أساسي. هل يستطيع المرء أن يفعل الشر دون أن يكون شريرًا؟ هل يمكن أن يؤدي عدم التفكير المطلق إلى خلق الجحيم على الأرض؟ ألا يفكر الشريرون في عواقب أعمالهم؟ ألا يشعرون بالذنب؟ وهل نمط تفكيرهم تجريدي ميكانيكي إلى هذا الحد؟

لقد صاغت أرندت عبارة "تفاهة الشر"، وافترضت أن الشر يأتي من الفشل في التفكير. الشر يتحدى الفكر، لأنه بمجرد محاولة الفكر الانخراط في تفكيك وفهم وبحث آليات الشر وفحص المقدمات والمبادئ التي ينشأ منها، فإنه يشعر بالإحباط لأنه لا يجد شيئًا هناك ذا منطق صلب أو ذات عاطفة إنسانية. يطرح راسولوف هذه المعضلة في فيلمه، وإن بطريقة غير مباشرة، محاولًا تفكيك هذه الذهنية المتحكمة بالأفراد الذين ينفذون عقوبة الإعدام.

واجه راسولوف مشاكل مع نظام الرقابة في إيران وكانت إمكانياته في إنتاج المزيد من الأفلام وعرضها محدودة أو محظورة بشدة. حتى الأن أنتج محمد راسولوف خمسة أفلام روائية لم يتم عرض أي منها في إيران بسبب الرقابة. وتجدر الإشارة إلى أنه تعرض للاعتقال أثناء تصويره أحد أفلامه وحكم عليه بالسجن 6 أعوام. تم تخفيض العقوبة فيما بعد إلى سنة واحدة ثم أطلق سراحه بكفالة، ومنع من صناعة الأفلام لمدة عامين.