23-ديسمبر-2020

من الفيلم (IMDB)

يبدأ المخرج الكردي الإيراني بهمن قوبادي فيلمه "السلاحف تستطيع الطيران" (2004) بمشهد للأطفال وهم يضبطون الهوائي، وكذلك يضبطون كل شيء في المكان الذي هو مخيم مؤقت للّاجئين ومن حوله قرى كردية صغيرةيعج المكان بأطفال يتامى أغلبهم بلا أطراف. إنهم الطفولة المذبوحة والضحية الدائمة للحروب. أما ما هو الزمان؟ فليس مهمًا لأنه كل زمان، فالحرب لن تتوقف والطفولة لم تزل تُذبح.

في فيلم "السلاحف تستطيع الطيران، يمثّل الطفل "ستلايت" البطل الشعبي المسؤول الذي لن يهدأ له بال حتى يطمئن على الجميع

كبار السن في الفيلم لهم دور هامشي، يظهرون بملامح كاريكاتورية، زادهم اليومي هو الأمل بالخلاص من طاغية جعل حياتهم جحيمًا، بينما ملامح الأطفال جادة وتحمل في نظراتها مسؤولية ونضجًا، لأنهم يمثلون طفولة نضجت على نيران الحرب والألغام، وبرغم ذلك فهي طفولة هشة قابلة للانكسار، مشغولة بالتعاطي مع الكارثة، وتعكس خبرة تفوق سنواتها القليلة وكل ذلك يتمثل بـ"ستلايت"، زعيم الأطفال، بعبقريته وكاريزمته الأخاذة، انه مشغول جدًا بحيث لا يمكنه التفكير في بؤس حياته.

اقرأ/ي أيضًا: سينما كيارستمي المحبة للحياة الباحثة عن مباهجها

يقول قوبادي "إن الحدود هي ألد أعداء الإنسان، لا يمر يوم في كردستان دون أن ينفجر لغم أرضي بأحد الأشخاص وهو يحاول عبور الحدود". وهو يرصد ذلك في فيلمه على إيقاع المناخ العاصف في قرى كردستان، ومع كل عاصفة يغيب خبر ويظهر آخر، لذلك يحاول "ستلايت"، وهو زعيم الأطفال وأبوهم الروحي أن يقنع شيخ القرية بشراء صحن استقبال القمر الصناعي، وينجح بذلك لكن تبقى الحاجة إلى أخبار ستالايت قائمة لأنه يمثل الحل، وهذا في اعتقادي ما ينشده المخرج، إذ يقترح الطفولة حلًّا للمشاكل التي يخلقها الكبار، حتى إن ظهور الكبار في الفيلم غالبًا ما يقترن بالكوميديا، على قلتها في الفيلم، إزاء العبقرية التي يبديها الأطفال، إنهم أطفال الكارثة يفهمون الرياضيات والعلوم لكنهم "يحتاجون معرفة استخدام السلاح والتمترس"، كما يقول "ستلايت".

مثلما يمثل "ستلايت" البطل الشعبي المسؤول، الذي لن يهدأ له بال حتى يطمئن على جميع أطفاله ويضمن سلامتهم، فإنه يمثل كذلك البهجة التي تتنقل على دراجة مزينة بألوان المرح وبطريقة احتفالية، لكنه لن يتوانى عن حفظ حقوقهم المادية إزاء عملهم في جمع الألغام التي زرعها صدام في حرب سابقة مع الأكراد، رغم ذلك يطلقون على الألغام صفة "الأمريكية" إشارة إلى قيمتها كما يرى "روجر ايبرت" وليس انتقادًا، فالفيلم ليس رسالة سياسية مباشرة من وجهة نظره بل همّ إنساني ضخم. بالتأكيد تحمل مشاهده إدانة للسياسات التي وأدت حلمًا بالوطن ألموجود في خيال الأكراد، لكن الغاية الفنية تتحقق حين يعتقد كل واحد منا بعد مشاهدة الفيلم بأن ثمن الحرب هو مستقبلنا/ اطفالنا.

يندر ظهور النساء في الفيلم، في إشارة الى غياب الأمومة في هذا المجتمع المسحوق، تظهر امرأتان فقط لبضع ثوان في أحد المشاهد بداية الفيلم وهما منقبتين مثل ثكالى. بالفعل الأمومة في ظل الحروب ثكلى، هذا ما يقوله قوبادي بفيلمه.

وبعدها لن نرى سوى المرأة الوحيدة آجرين إنها الطفلة من حلبجة، كتلة ممهورة بالألم النفسي والذكريات المفجعة شاهدة على قبر الطفولة، وتمثل صورة الأمومة المستحيلة ما دام طفلها هو ذكرى أسوأ لحظاتها. تمثل آجرين وجه الأمومة الضائع في الضباب بينما نداء ابنها الكفيف يتلاشى دون جواب.

المرأة الوحيدة في فيلم "السلاحف تستطيع الطيران" هي آجرين، كتلة ممهورة بالألم النفسي والذكريات المفجعة شاهدة على قبر الطفولة

الطفل هو ابن الجريمة التي لن يمحيها الزمن ولا يشملها النسيان، آثار الجريمة باقية في جيل قادم بلا نظر، جيل كفيف لا يعرف للحياة سوي وجه الخراب وأصوات الدمار، جيل ملفوظ من رحم مغتصب، لا يعي أهميته إلا ذو بصيرة، والادهى أن صاحب البصيرة متمثلًا بالطفل الابتر "هه نكَ ئاو" بلا يدين، بلا حيلة، لا يملك سوى أن يطلق نبوءاته التي لا يتخللها الأمل، لكنها تحمل تحذير دائم من الغد، حتى النهاية التي يتنبأ بها الأبتر "هانكوف" لن تكون سعيدة ولا تحمل العوض المناسب، سقوط صدام لا يجني ثماره الاطفال، وساق ساتلايت لن يعوضها ذراع نحاسي من تمثال الطاغية. حتى أمريكا وهي ترمي منشورات الأمل من طائراتها وتكاد تجعل السلاحف تطير، لن يحصل الأطفال منها سوى قبض ريح.

اقرأ/ي أيضًا: محسن مخلمباف.. الثورة بعيون الدكتاتور وحفيده

عمد قوبادي على اختيار اسماء تحمل ثقل رمزي، فلاسم آجرين علاقة بمعنى النار، وهي علاقة تناسب غضبها، شعلتها الأولى انطفأت حين تم اغتصابها في حلبجة قرب بحيرة صغيرة، كان المشهد بالغ التأثير حين تسكن يدها أخيرًا في سطح الماء وتطلق صرخة توازي انطفاء طفولتها.

يستحق قوبادي إشادة خاصة لاستخراجه هذا الأداء المدهش من الأطفال، حتى الرضع منهم، وإدارة العمل في مواقع التصوير الوعرة.

اقرأ/ي أيضًا:

فيلم "طهران تابو".. الجنس عدسة مقرّبة على المجتمع الإيراني

"تاكسي طهران" والبحث عن الخلطة السحرية لنجاح السينما الإيرانية