26-نوفمبر-2016

لقطة من فيلم فتاة القطار للمخرجة تيت تايلور

المشهد الأساسي في فيلم "فتاة القطار" يحدث في نفق مظلم نهارًا. بطلة الفيلم رايتشل (إميلي بلانت) تكون شاهدة على حدث قد يكون دليلًا رئيسيًا في جريمة قتل ميجين (هيلي بنت). لكن المشكلة أن رايتشل كانت ثملة جدًا، فلا تستطيع تذكر ما حدث. والمميز في مشهد النفق هو أنه يعمل على عدة مستويات، من جهة عرض للمشاهد أن رواة الفيلم لا يمكن الوثوق بهن، ومن جهة أخرى تقديم رمز للأسلوب البصري المتبع في الفيلم.

فيلم "فتاة القطار" مقتبس عن رواية من نفس الاسم للكاتبة البريطانية بولا هوكينز. تدور القصة حول رايتشل (إميلي بلانت) امرأة مطلقة مدمنة على الكحول تذهب على متن القطار إلى عملها يوميًا. واعتادت أن تراقب منزلًا يقع على الطريق، يسكنه زوجان، سكوت وميغين، تتخيل رايتشل أن حياتهم مثالية، إلى أن يأتي اليوم الذي ترى فيه ميغين تقبل رجلًا آخر على الشرفة. وبعد محاولتها التحدث مع ميغين في النفق، فجأة تستيقظ صباحًا جسدها مليء بكدمات وجروح ودماء، بدون أدنى فكرة عما حدث. ويتزامن هذا مع إعلان اختفاء ميغين، واحتمال مقتلها. لتصبح رايتشل المتهمة الرئيسية.

قرر المخرج ومديرة التصوير في فيلم "فتاة القطار" إعادة استخدام السيلولويد بدل التصوير الرقمي، مما أتاح لهما استخدام الظلال بكثرة

هذا الفيلم هو رابع أعمال "تيت تايلور" الإخراجية، من أهمها كان فيلم The Help الذي رشح لأربع جوائز أوسكار. تايلور لم ينقل الرواية إلى الشاشة بدقة. لكنه حاول بجهد كبير الارتقاء بها إلى عمل سينمائي أكثر جدية. فاستخدم المخرج الرواة كمحاولة منه لاكتشاف طريقة تفكير المرأة، والدخول في عقلها. ولم يقتصر ذلك على تحديد الرواة بثلاث نساء فقط، يتحدثن بطريقة حميمية عن صراعاتهم الداخلية، بل يظهر ذلك أيضًا في هيمنة اللقطات القريبة على وجوههن عندما يتكلمون، كأن الكامير تريد أن تنقل للمشاهد فعليًا ما يدور في رأسهم.

اقرأ/ي أيضًا: لماذا لا يستحق وودي آلن المكانة التي نالها؟

الرواة هم رايتشل، ميغين، وآنا (زوجة طليق رايتشل). لكن سرعان ما يرينا المخرج أن رواة الفيلم غير جديرين بالثقة، إما من خلال وجهات نظر متعددة لحدث واحد، أو عبر الفوضى في تنظيم الذكريات. فرواية النساء الثلاث لقصصهن فوضوية، بطريقة أقرب إلى تيار الوعي، فلا انتظام بالأحداث ولا تراتبية. وينعكس ذلك على المونتاج الذي اتبعه تايلور، بانتقاله السريع بين الرواة، والماضي والحاضر. مما شبّك قصص الشخصيات، وأعطى للقصة تجانسًا أكبر، لكن بنفس الوقت جعل الفيلم أكثر تشويشًا.

استخدام الظلال كأداة لدعم الرواية البصرية للفيلم بدأ منذ أيام الأفلام الصامتة، ويتجلى ذلك في فيلم Battleship Potemkin. أو في اختباء الكولونيل كورتز (مارلن براندو) في الظلال في فيلم فرنسس فورد كوبولا "القيامة الآن".

ورغم الابتعاد عن هذا الأسلوب في الأفلام التجارية، واستخدام طرق تصوير دعائية على غرار الإعلانات المصورة والفيديو كليبات، وهيمنة الإضاءة البراقة. قرر المخرج ومديرة التصوير "شارلوت بروس كريستنسن" في فيلم "فتاة القطار" إعادة استخدام السيلولويد (الفيلم) بدل التصوير الرقمي، مما أتاح لهما استخدامًا كبيرًا للظلال، يشبه إلى حد كبير أسلوب هيتشكوك وفيلم نوار. خصوصًا أنه -تقريبًا- يحاول أن يندرج ضمن نفس هذه الفئة من الأفلام، الغموض والتشويق. وهنا استطاع مخرج الفيلم بالتعاون مع مديرة التصوير، خلق أسلوب بصري مميز في الفيلم.

"أردت العتمة الحقيقية" تذكر مديرة التصوير. "هناك الكثير من الظلال، والعتمة، والسواد الحالك. أشخاص يخرجون من الظل، وآخرون يدخلون إليه". ونرى هذا التباين يظهر بشكل مميز في مشهد النفق، حيث هناك تباين شديد بين الضوء والعتمة. النفق في النهار نقيض لخارجه، مكان مظلم ومجهول، كذاكرة رايتشل التي تحاول اكتشافها. وظلمة ذاكرة رايتشل لا تنحصرعلى هذه الحادثة، بل أغلب ذكرياتها مبعثرة، مظلمة لا يمكنها الوثوق بها. لهذا نجد حضورًا بارزًا للظلال في الفيلم.

أظهرت الظلال الدائمة على وجه رايتشل ثمالتها وضياعها، مما أعفانا من كليشهات الزجاجات الفارغة، مشية الدائخ، وفقدان القدرة على الكلام. وأظهرت أيضًا محاولتها البحث في العتمة التي تحيطها. وينطبق هذا أيضًا على الشخصيات الأخرى، ثم على المشاهد، ففي فيلم مظلم، الجميع يبحث عن الضوء، والحقيقة.

اقرأ/ي أيضًا: آخر ملوك اسكتلندا: القراءة من كتالوج الاستبداد!

وعكست أيضًا شخصية الراوي على طريقة عرض وجهة نظره، فرايتشل الثملة دائمًا وعدم تفريقها بين ما هو حقيقي وخيال، كاميراتها في اهتزاز دائم، وأحيانًا تظهر الصورة أقل وضوحًا. بينما ميغين، التي تحاول الهرب من الماضي، تضهر كاميرتها كأنها تطفو بدون أن تلامس الأرض. وآن، المحبوسة في المنزل مع الطفل، لقطاتها ثابتة، تظهر من خلال إطارات أخرى في منزلها.

النفحة التجريبية في فيلم فتاة القطار أنتجت لنا فيلمًا لم نتوقعه، ومهارة جيدة في استخدام الرواة غير الموثوق بهم بطريقة جميلة

استطاع المخرج أن يقدم فيلمًا دراميًا مقبولًا، بأداء مميز ومقنع من الممثلين، وبالأخص النساء الثلاث. واستطاعت إميلي بلانت إتقان دور الثملة ببراعة. ومع محاولة الفيلم في بدايته تقديم معالجة جدية لتيمات اجتماعية مهمة كالطلاق، الخيانة، والتعلق بالماضي إلا أنه وقع في فخين، فعوضًا عن هيمنة "الغموض" والتشويق" ودفع الأحداث لمعرفة الحقيقة، نجد أن جزءًا كبيرًا من الحبكة تدور حول صراعات ودوامات عاطفية ميلودرامية.

والفخ الأكبر، هو أن القصة فقدت توازنها في موقعين أولًا عند فشل الحبكة للارتقاء بكل ما هيئت له قصة الفيلم، وإعلانات الفيلم. ثم في النهاية التي تبدو كأنها مستعارة من فيلم آخر. إلا أن النفحة التجريبية في الفيلم أنتجت لنا فيلمًا لم نتوقعه، ومهارة جيدة في استخدام الرواة غير الموثوق بهم بطريقة سينمائية جميلة. واستطاع غمرنا في القبح، الضياع، وخيبات الأمل مع الرواة.

اقرأ/ي أيضًا:
دونالد ترامب.. سيرة موجزة لممثل فاشل
في حب السينما