19-أغسطس-2023
من الفيلم

لقطة من الفيلم (الدهليز)

لأن السينما أم الفنون، فإنه لا يُمكن عرض حالة معينة ومعالجتها اجتماعيًا وفلسفيًا دون اللجوء إليها على اعتبار أنها الأقدر على التعبير عما هو إنساني. وهذا ما يتجلى في فيلم "السقا مات" (1977) للمخرج المصري صلاح أبو سيف الذي وضع فيه كل طاقته لطرح فكرة الموت ومعالجتها من خلال كادر من الممثلين الكبار.

ومع أن الفيلم مأخوذ عن رواية تحمل العنوان نفسه للكاتب المصري يوسف السباعي، إلا أن نهايته تختلف عن نهاية الرواية التي يموت بطلها. وهذا التغيير والانحراف عن أصل الرواية هو جوهر الفيلم ورغبة صريحة من مخرجه بإظهار أقدار جديدة تختلف عن الأقدار المرسومة في الرواية بطريقة تجعلك تتعلق بشخصياته، وتدفعك إلى تحليل طباعهم وتناقضاتهم أثناء محاولتهم استيعاب فكرة الحياة. وهم، للمفارقة، أحياء لكن بلا روح أو قلب ينبض.

يطرح فيلم "السقا مات" الكثير من الأسئلة الفلسفية حول معنى الموت وتأثير خوف الإنسان منه على سلوكه ونظرته إلى الحياة

لا نجد في قصة الفيلم الكليشيهات المحروقة أو التكرار في الأحداث الشائع في السينما العربية، وهذا أحد أهم الأشياء التي تُميّز الفيلم عن باقي الأفلام العربية إلى جانب موضوعه الشائك وطريقة معالجة وطرح أفكار الشخصيات، التي تُعد من أهم أسباب نجاحه.

تدور أحداث الفيلم حول رجل يعمل في توزيع الماء على البيوت ويُدعى "شوشة السقا"، الذي يخاف من الموت خوفًا شديدًا لأنه في نظره يسلب الأحبة، فقد أخذ منه زوجته وهي تلد ابنه "سيد". يعيش شوشة في منزل متواضع مع أم زوجته المتوفية وابنه. ومن خلاله، يطرح الفيلم أسألته الفلسفية عن الموت، يساعده في ذلك أداء الفنان عزت العلايليالذي نجح نجاحًا كبيرًا في تجسيد شخصية شوشة التي قدّمها بجدية وواقعية وقدرة مذهلة في التعبير عن مشاعرها وخوفها وقلقها، بالإضافة إلى حزنه الكبير على وفاة زوجته لدرجة أنه لم ينظر في المرآة منذ وفاتها، أي منذ 10 سنوات.

شوشة شخصية ملتزمة ومسالمة، لكنها قابعة في ماضيها وتخشى من الموت الذي يفرق بين الأحباب والأصحاب من دون سابق إنذار، لذا فهو العدو الحقيقي الذي يجب مواجهته. والفيلم يلتقي مع فلسفة المخرج السويدي إنغمار بيرغمان وفيلمه "The Seventh Seal"، إلا أن صلاح أبو سيف اختار البساطة والوضوح في تقديم شخصيات الفيلم التي تعالج جميعها الفكرة نفسها، أي فكرة الموت الذي تكّلم الفيلم عنه دون إظهاره بصورته المخيفة الشائعة.

بل، وعلى العكس تمامًا، طُرحت الفكرة بشكل رقيق، وأظهر لنا الفيلم أن أفضل حل للتخلص من مخاوفنا هو مواجهتها، والتعرف على الموت الذي عرفه شوشة مرة أخرى بعد موت صديقه "شحاته" (فريد شوقي) الذي استضافه في بيته المتواضع، ما جعله يدخل في مواجهة ما كان يخشى مواجهته.

تباين الشخصيات وتناقض أفعالها ورغباتها كان واضحًا منذ البداية إما من خلال النص الفلسفي، أو عبر الصورة والعلامات الموجودة على الجدران. كما أن شخصية شحاته كانت تمثّل نقيض شخصية السقا في تعامله مع الموت والحياة، فهو كان يعيش اليوم بيومه مستندًا إلى فسلفة مفادها أن الله أنعم على الإنسان بالحياة، وكل ما في الحياة هو نعمة يجب أن يستثمرها الإنسان، وألا يعيش خائفًا لأن الموت سيأتي لا محالة.

في المقابل، وعلى العكس منه تمامًا، لا يزال السقا عالقًا في ماضيه خائفًا من مستقبله ومن الموت الذي يخشاه كثيرًا لدرجة أنه تحوّل إلى هوس وقلق سلب منه حياته وأيامه. وفي أحد حواراتهما، يظهر الفرق والاختلاف بين الشخصيتين في قول شحاته لشوشة: "لا تنس حقّك في الدنيا"، وهي الجملة التي جعلت من شوشة محتارًا غاضبًا من الحياة نفسها. فالموت هنا ليس نهاية القصة رغم أنه نهاية كل كائن حي، وإنما درس آخر يقدّمه للذين لا زالوا أحياء. كما أنه استعادة لشيءٍ ما مفقود، أو استعادة لشغف انطفأ، أو ربما لبريق الحياة الذي اختفى من عيون شوشة بعد موت زوجته، فلا يوجد من يعلمنا معنى الحياة غير الموت نفسه.

يروي الفيلم قصة رجل عالق في ماضيه بسبب خوفه من الموت الذي أخذ منه زوجته

يطرح الفيلم أيضًا فكرة الاشتراكية في توزيع نعم الله على الناس بالتساوي من خلال المشهد الفلسفي الذي جمع ابن المعلم شوشة الطفل "سيد" بشحاتة، ومفاده أن توزيع نعم الله على المحتاجين هي غاية الإنسان في الحياة. وهذه الفلسفة التي يتبناها الفيلم شكلٌ من أشكال الاشتراكية الواضحة. ناهيك عن كونه قد تطرق إلى حالات فلسفية عميقة مثل فكرة أن الأحياء يبكون على أنفسهم لا على الأموات، وأن الأموات أكثر سعادة وراحة منهم.

قُدِّمت هذه العدمية في الفيلم بشكل رقيق جعل منه فيلمًا ممتعًا لا يُدخلنا في هموم الشخصيات وأحزانها، فالشخصيات نفسها مكتوبة بطريقة ممتازة. وفي أحد المشاهد، يدور بين شوشة وشحاتة حوار حول موضوع الزهد في الحياة، وكيف أن الشهوات واللذة قادرة على ذل الإنسان في حياته، وهو ما يذكّرنا بالحوار الذي دار بين براد بيت وإدوارد نورتون في فيلم "نادي القتال" حول الأشياء التي يعتقد الإنسان بأنه يمتلكها، لكنها في الحقيقة هي التي تمتلكه.