08-أغسطس-2023
لقطة من الفيلم

لقطة من الفيلم

"Swiss Army Man" (2016) فيلم كوميديا ومغامرات من تأليف وإخراج الأخوين دان كوان ودانيال شاينرت اللذين رُشِّحا لثمان جوائز عن فيلمهما الأخير "Everything Everywhere All at Once" (2022) الذي حصلا من خلاله على الأوسكار. لكننا الآن لسنا بصدد الحديث عنه وإنما عن فيلمها المذكور سابقًا "Swiss Army Man"، الذي حاولا فيه قول كل شيء دفعة واحدة، ونجحا في ذلك إلى حدٍ كبير.

شاهد أغلبنا تلك العلاقة الحميمية بين توم هانكس والكرة ويلسون في فيلمه "Cast Away"، وتعاطف مع هانكس في المشاهد التي ضاعت فيها الكرة التي نسينا أصلًا أنها كرة صامتة، جماد، واعتبرناها صديقه الحميم. هذا ما تفعله السينما مع الجماد والأشياء التي لا يمكن أن نتجاوز شكلها الأولي الظاهر للعلن. ففي جملة شهيرة لبيتهوفن حول الموسيقى، يقول: إذا كانت تُحيل الآخرين إلى شيء، فهي حتمًا تدفعني إلى الجنون حتى لو كانت تعيد المجانين إلى صوابهم. وفي هذه الأجواء تدور أحداث فيلم كوان وشاينرت.

يقوم الفيلم على أسئلة كبيرة مثل: ما معنى الحياة؟ ولماذا أنا حي؟ التي لا يستطيع الإنسان مواجهتها إلا عبر التهكم

يبدأ الفيلم دون مقدمات ودون التعريف بأبطاله وشخصياته، إذ يُفتتح بمشهد عنيف لرجل لا نعرفه يلتف حول عنقه حبل طويل ويتمتم بلحن غريب يعرفه هو وحده. تبدو الافتتاحية، للوهلة الأولى، كئيبة. لكن سرعان ما يتصاعد الإيقاع حين يرى الرجل المعلّق جثةً يدفعها البحر نحوه، فيتراجع عن قرار انتحاره الأناني لإنقاذ ذلك الشخص. وهنا نأخذ أول انطباعاتنا عن "هانك" (بول دانو) الذي يريد الانتحار ليس لأنه يحمل ذنبًا لا يمكن التعايش معه، بل على العكس تمامًا، فللأشخاص الطيبين آلامهم الخاصة التي لا تنتهي إلا بانتهاء حياتهم.

يتعرّف هانك على الجثة "ماني" (دانيال رادكليف الذي قدّم أداءً رهيبًا في هذا الفيلم)، ومن هنا تبدأ رحلة غريبة لصديقين هما كائن حي وجثة. وهذا التناقض هو أحد العوامل الأساسية التي انطلق منها كوان وشاينرت في صياغة فيلمها هذا؛ التناقض الذي هو تناقض الحياة نفسها، حيث الولادة والموت، الخير والشر، والجمال والقبح.

تكاد تكون رمزية الفيلم مضحكة في بادئ الأمر، فبعد فشل هانك في إنقاذ تلك الجثة التي دفعها البحر إليه، وأخبرها أثناء محاولته إنقاذها بأنه توقع أن يشاهد شريط حياته قبل أن يموت، بما فيه من اللحظات السعيدة والحفلات التي قضاها والأصدقاء الذين عرفهم، وهو ما لم يحدث؛ يأخذ حزامها ويربطه حول عنقه ويبدأ الغناء من جديد بلحنه الغريب. وأثناء محاولته الانتحار للمرة الثانية، يبدأ ماني بإطلاق الريح.

يُخبرنا هذا المشهد المضحك إلى حد الاستفزاز بأننا مُقبلون على كوميديا سوداء. فالفيلم يتحدث عن شيء أكبر وأهم من إطلاق الريح الذي هو فعل طبيعي شأنه شأن التثاؤب والعطس، لكن الفارق أن التثاؤب والعطس مقبولان اجتماعيًا، على عكس إطلاق الريح الذي يُعتبر فعلًا غير حضاري يدل على حيونة الإنسان. والمفارقة أن الإنسان نفسه عندما لا يستطيع إطلاق ريحه، سيذهب ليعالج نفسه كي لا يموت.

تبدأ رحلة هانك وصديقه الجثة ماني بعد إطلاق الأخير للريح. وتتمحور هذه الرحلة حول الأشياء التي لا يمكن للإنسان التحكم بها، مثلها مثل أي مشاعر أخرى. وأيضًا حول سعي الإنسان لإنكار تاريخه الطويل مع الغابة لأجل أن يبدأ من المدينة وما هو أعلى. لذلك يبدو الفيلم رحلة نحو الذات وتقبّلها ومشاركة الآخر بما يجب قوله وفعله، لأن المدينة والتحضّر جعلتا من الإنسان أكثر توحدًا ورغبةً بالموت.

يتجلّى ما سبق في شخصية هانك غير المتقبل لذاته، والعاجز عن مشاركة الآخرين أفكاره وآراءه ورغباته. فإذا كان الإنسان لا يستطيع تقييد غازاته، فلن يستطيع العيش متقبلًا شكل التحضر الذي هو عليه الآن. وإذا كان هذا الفعل الداخلي اللاإرادي للإنسان غير مقبول، فإن كل أفعال الإنسان اللاإرادية ليست حقيقية بل مجرد وهم صنعه كي يستمر في اندماجه وتكيفه مع المدينة وقوانينها الجديدة التي تقيّده هي الأخرى ببدلة وربطة عنق.

يُثير فيلم "Swiss Army Man" سؤال العلاقة بين الإنسان والمدينة التي جعلته أكثر توحدًا ورغبةً في الموت

نجح الفيلم في إيصال هذا السؤال الكبير، سؤال العلاقة بين الإنسان والمدينة التي تقيّد حريته، بطريقته الكوميدية التعيسة التي عبّر من خلالها عن تغيّر أشكال القيد المفروضة على الإنسان، الذي يعتقد بأنه كلما تقدّم به الزمن، كلما انتصر على طباعه الحيوانية.

وبعد شوط طويل من التجارب بين هانك وماني/ الجثة، مثل تدريبها وتعليهما أساسيات العيش ابتداءً من سؤالي: ما هو الإنسان؟ ومن أنا؟ وصولًا إلى الضحك والبكاء والشتيمة والنكتة؛ فهمت الجثة مرة أخرى ما هي الحياة، وما هي قوانينها التي أصر المخرج على إظهارها بشكلها الحقيقي المستفز.

تسأل الجثة: إذا لم أستطع التعبير عما بداخلي لمن أحب، فلماذا عليّ أن أبقى مع الآخرين؟ ولماذا عليّ الاستمرار في ممارسة هذه الأفعال؟ ولماذا علينا العودة إلى المدينة والتحضر؟ لماذا لا نستطيع البقاء هنا إذا كان الإنسان غير قادر على مواجهة المدينة ومصاعبها؟ والمحزن في هذا الأمر أننا لا نستطيع فعل أي شيء خارج إطار ما هو مقبول اجتماعيًا.

ولكي لا نُحرج أحيانًا، علينا أن نوهم الآخرين ونوهم أنفسنا بأن حياتنا لها معنى، وهنا يأتي سؤال ماني/ الجثة: ما كل هذا؟ ما هي الحياة أصلًا كي نفعل كل ذلك من أجل اللاشيء؟ ثم تنهار بالبكاء لأنها عادت إلى الحياة مجددًا، وتتمنى حينها الموت مجددًا، وأي أمنية غريبة هذه. فكل الأموات يريدون العودة، لكن ماني الميت يريد الموت مجددًا لأنه ببساطة يعرف أن الحياة القائمة على الخداع وعدم التقبل والحاجة إلى تبرير كل الأفعال، من أبسطها إلى أكبرها، هي حياة لا تُطاق ولا تستحق العيش أيضًا.

ينتهي الفيلم مثلما بدأ، بشكله الكوميدي الهزلي الذي هو الطريقة الوحيدة الممكنة للتعبير عن سؤال كبير مثل سؤال: ما معنى الحياة؟ ولماذا أنا حي؟ أسئلة كبيرة لا يستطيع الإنسان مواجهتها إلا عن طريق التهكم. فقد نجح دان كوان ودانيال شاينرت من خلال طرحهما للأسئلة الكبيرة في ترك المشاهد في حيرة من أمره. فبعض الأسئلة من الأفضل أن تبقى بلا أجوبة. وعندما تحاول أن تعرف إجابة شيء ما، فأنت بالحقيقة تبتعد عن السؤال نفسه.