29-أبريل-2019

غرافيتي لـ تروتسكي في المكسيك

محاولة استرداد النص هنا ليست إنباتًا له في واقع غير واقعه، بل هي بالأحرى، مبحث التاريخ حينما يسمح بفرصة الإطلالة منه، من شباك النص تتبدى المعرفة. هنا النص لصاحبه ليون تروتسكي، عائد لسنة 1923، بعنوان "الثورة والحياة اليومية". يصف على بعد هذه المسافة الزمنية فاعلية التنظير لأسلوب الحياة، كما هي في حالات تشييد نظام جديد، إحدى تمرحلات التاريخ حينما يقطع بالإرادة العامة مع ما سبق، ينتقل نوعيًا من حالة إلى أخرى، قلما تمت معاينة النقلة كما في حالة الثورة البلشفية، كما نعاينها في فصله الخامس: فودكا، كنائس وسينما.

اكتسبت الحرب على الكحول صفتها المبدئية كفعل تربوي ينضوي داخل مهمات الثورة البلشفية

يهم هذا المقال بشكل مباشر لأسلوب الحياة السوفييتي، على لسان أبرز منظريه، مجسّدًا امتزاج السياسي بالمعيش اليومي في سياقه المباشر؛ السياسة كمحدّد تنظيمي لشكل هذا المعيش. وبشكل غير مباشر؛ أي بما هو فلسفة بتعريفها جدلًا بين الممارسة السياسية والممارسة العلمية في شكل نظري (كما يعرفها لويس ألتوسير) تتخذ هذه الممارسة جدواها التاريخي عندما تلامس الواقع، وتتحقق داخله ممارسة.

حظر الفودكا ويوم العمل

في الانتقالات الطفيفة، والمألوفة عادة، يكمن ما يخلق ثورية اللحظة التي تعيشها الطبقة. هذا أول ما نستنتجه عبر السطور الأولى من النص، وهو يستعرض الحدثين الهامين الذين استجدّا في تلك الحقبة: حضر الفودكا والتقسيم الجديد ليوم العمل.

اقرأ/ي أيضًا: من يكتب تاريخنا السينمائي؟

حظر، أو تصفية تجارة الفودكا، هو تحدٍّ حملته روسيا من قبل اشتعال شرارة أكتوبر الأحمر. أي قبل الثورة والحرب الأهلية، وفي الزمانات الإمبراطورية، كان تصفية سوق المشروبات الكحولية القوية إرهاصًا يقض مضجع الدولة. إذ بالنسبة للإمبراطورية، والتي كانت في حقبتها المتأخرة تخوض حربًا عالمية طاحنة، كانت حربها على الكحول لا تخضع لمنطق الضرورة الطبقية؛ مليار زائد أو مليار ناقص لا يغير في الأمر شيئًا. بل مندرجة تحت واجبات الاقتتال العالمي، والذي حشر فيه العمال عنوة في رحاها، خدمة لمصالح الإمبريالية. في هذه الحالة، وبعبارة أبسط، كانت الإمبراطورية في حاجة لعامل متيقظ ليخدم في جيوشها خلال الحرب العالمية الأولى.

ورثت الثورة هذه التصفية، بيد أنها لم تأخذ شكلها التاريخي إلا داخل الصراع الثقافي والتربوي للطبقة العاملة؛ البانية للوعي الاقتصادي الجديد. وبعد أن قامت هذه الطبقة بالاستيلاء على السلطة، اكتسبت الحرب على الكحول صفتها المبدئية كفعل تربوي ينضوي داخل مهمات الثورة، تعززه وتنظمه، وتكفل له النجاح في بلد العمل المتجدد. يرتبط هذا النجاح، انخفاض نسبة الإدمان على الكحول، بالنجاحات الاقتصادية والثقافية للثورة الفتية وقتها.

ثلث للعمل، ثلث للراحة وثلث للترفيه

"فيما يتعلق بيوم عمل من ثماني ساعات فإنه مكسب مباشر حقّقته الثورة، بل واحد من أهم مكاسبها". يكتب تروتسكي، مشيرًا إلى التقسيم الذي أقرته الثورة ليوم العامل: ثلث للعمل، ثلث للراحة وثلث للترفيه. تطبيقًا للشعار العمالي، والذي رفعته هي ذاتها، في تقدمها نحو الانتصار التاريخي؛ أي تطبيق النظرية في الواقع المعاش، بتدمير السلطة والمجتمع القديمين، وتشييد جديدين قائمين على تمركز السلطة في يد الطبقة العاملة.

يصف ليون تروتسكي  السينما بالقول إنها "الوسيلة التي تفوق سائر الوسائل الأخرى أهمية" و"الاختراع المذهل"

هذا التغيير الجذري والجوهري في حياة العامل، بتحرير ثلثي يومهم، يضع الحياة الاجتماعية إزاء معضلة أخرى؛ هي في أي شيء سيشغل العامل ثلث الترفيه؟

اقرأ/ي أيضًا: دليلك السينمائي لفهم أمريكا في عهد دونالد ترامب

يجيب صاحب النص: "هذا من شأنه خلق قاعدة لتحولات جذرية لنمط الحياة، لتحسين السلوك والآداب، لتطوير التربية الجماعية، إلخ، لكن الأمر لا ينحصر بتأمين هذه القاعدة. فبقدر ما يجري استغلال زمن العمل على نحو مفيد، تنتظم حياة العامل على نحو أكمل وأذكى". راسمًا بشكل تراكمي خطاطة الاستنتاجات؛ النجاحات الاقتصادية لكل عامل على حدة تؤدي، على نحو آلي، إلى ترقية الطبقة العاملة برمتها ماديًا وثقافيًا. وبقدر ما تكون ساعات العمل الثماني منتجة، وبقدر ما تكون ساعات النوم الثماني صحية ومجددة للقوى، تصبح ساعات الحرية الثماني مفيدة ثقافيًا ومغنية للشخصية.

هكذا تستجد المعضلة، بضرورة إنشاء وسائل تسلية جديدة. بما أن التسلية في هذه النقطة من التاريخ، بوصفها نقطة مفصلية تعلن القطيعة مع السابق منها، وهنا القطيعة قطيعتان؛ مادية ونظرية. من هنا تنبني المفارقة التاريخية عند تروتسكي، بين دور السينما والكنائس والخمارات. مع أن الأخيرة تم تبيان القطع معها في بداية النص.

دور السينما

يبتدئ ليون تروتسكي حديثه عن السينما واصفًا إيّاها بـ"الوسيلة التي تفوق سائر الوسائل الأخرى أهمية" و"الاختراع المذهل"، فيما تكمن أهمية النص كما ذكرنا آنفًا في ارتباطه بتاريخه، تبرز في هذا المستوى الدهشة التي خلقها اختراع السينما. أو كما يبرز في نص آخر، للقصاص السوفياتي ميخائيل زوشينكو هذه المرة، حيث يعبر فيه عن ذات الاندهاش بدخول أول ديكتافون إلى روسيا، سنة 1920، قائلًا: "لقد كان يومًا عظيمًا مبهجًا عندما وصلت إلينا هذه الآلة.. اجتمعت حشود الشعب لتنظر هذا الدكتافون". (قصة الدكتافون، لميخائيل زوشينكو)

تروتسكي: أن نكون قد عجزنا حتى الآن، أي منذ ستة أعوام تقريبًا، عن السيطرة على السينما، فهذا ما يبين إلى أي حد نحن حمقى وجهلة

ينضوي هذا الاندهاش التاريخي والشغف بهذا النوع من الاختراعات، تحت غطاء شغف أكبر هو بالتسلية، بالضحك وحب الاكتشاف لغرائبية هذا الوافد الجديد، بما يمثل كل هذا من حاجة اجتماعية ونفسية ضرورية للجماهير. محملًا إياها مسؤولية أخرى سياسية، وبلغة ألتوسير نعيّنها شكلًا بدائيًا من تفعيل وسائل الدولة الأيديولوجية الجديدة، وهي الدعاية للمجتمع الاشتراكي.

اقرأ/ي أيضًا: سينما مصر.. سينما يوليو: مسار وتجارب

يكتب تروتسكي: "أن نكون قد عجزنا حتى الآن، أي منذ ستة أعوام تقريبًا، عن السيطرة على السينما، فهذا ما يبين إلى أي حد نحن حمقى وجهلة، إن لم نقل ببساطة إلى أي حد نحن محدودي الأفق. فهذه الوسيلة التي بين أيدينا هي أفضل وسيلة للدعاية، سواء أكانت هذه الدعاية تقنية، أم ثقافية، أم مناهضة للإدمان على الكحول، أم صحية، أم سياسية. إنها تيسر القيام بدعاية هي في متناول فهم الجميع وجاذبة لاهتمام الجميع، دعاية تستحوذ على المخيلة".

هكذا السينما تنافس الخمَّارة، أي بصفتها مصدر جذب وتسلية، قادر على منافسة مشارب الجعة والحانات فيما يتعلق بانفاق ساعات الحرية الثماني. وتنافس الكنائس بذات الشكل، فيما يصف ذات المتن العلاقة التي كانت تربط دور العبادة بالمجتمع من جهة، ومن جهة أخرى باللحظة التاريخية.

السينما مقابل الكنائس

عودة إلى خصوصية اللحظة، حيث المجتمع مر بسلسلة انقلابات تجسدت في القطيعة مع الماضي، تمثلت في تحوله المادي (نمط وعلاقات الإنتاج)، وتحوله الفكري والسياسي على ذات الأساس. تبقى العلاقة بدور العبادة تعود إلى حقبة ماضية، ودورها داخل تلك الحقبة ووسط صراعاتها، كانت دائمًا مصطفة إلى جانب الطبقة الآفلة. من هنا ينبني الارتباط الضعيف للمجتمع الشيوعي مع الكنيسة الروسية الأرثودوكسية، وبوصف مجتمعًا ودولة ناتجة عن ثورة كانت نقيض هذه الكنيسة، يتمثل هذا الارتباط ضعيفًا، سطحيًا وتناقضيًا في مجمله.

غير أنه ملتبس على مستوى الفرد، الفرد الذي يرزح تحت ضغط الروتين والعادة والتقليد، "قد لا يقدم العامل على شراء أيقونات دينية جديدة، لكنه لا يجد في نفسه الإرادة اللازمة للتخلص من الأيقونات القديمة"، أو "قد لا تذهب الناس إلى الكنيسة من باب التدين، وإنما لأن الطقس جميل، ولأن الكنيسة جميلة وفيها جمهور غفير، ولأن الغناء فيها جيد". ويكتب مُؤرخًا: "الواقع أن الكنيسة تمارس جذبها بسلسلة من الإغراءات الاجتماعية – الجمالية غير المتوفرة في المصنع والأسرة والشارع".

تروتسكي: قد لا يقدم العامل على شراء أيقونات دينية جديدة، لكنه لا يجد في نفسه الإرادة اللازمة للتخلص من الأيقونات القديمة

هذه الإغراءات التي يضعها المنظر الشيوعي تحت بند البحث عن التسلية، من ناحية لا ترتكز على أساس عقائدي تقوم عليه، وليست تحدد ترابطًا قويا ماديًا داخل وبين مكونات المجتمع. بل هي شكل من أشكال الفولكلور، المنزاحة بضغط المستجد من هيكلة للمجتمع إلى هامش الممارسة اليومية، تملأ فراغ وقت الفراغ من ناحية أشكال التسلية. إذ ليس بالنقد وحده تعدم، بل بإيجاد بدائل؛ "بأشكال جديدة، بتسليات جديدة، وبتمثيليات جديدة تكون أرقى من حيث المستوى الثقافي" هذا ما يقوله النص.

اقرأ/ي أيضًا: الحنين إلى سينما القاع في دمشق

هكذا، عاد ينظر إلى السينما كأداة ذات دور تاريخي، إذ هي تقوم بهذه القطيعة مع الماضي في شكل بديل للكنيسة وطقوسها الفولكلورية. ودور اجتماعي، إذ هي تحول محل الخمارة والإدمان عن الكحول. وفي آن تقدم بذات الكيف، إذ هي في يد الطبقة العاملة، أداة إشاعة الوعي الثوري وتثقيف الفئات الشعبية العريضة. إذًا "تلك هي الوسيلة التي يتوجب علينا السيطرة عليها والتحكم بها مهما كلف الأمر" يختم ليون تروتسكي متنه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

نكرهُ العمل.. يا رفيق لينين ما العمل؟

ألان باديو متحدثًا عن الثورة الروسية 1917