03-أغسطس-2018

من فيلم غروب وشروق

خطوات أولى

في 1955، بدأ اهتمام رجال يوليو بالسينما كوسيلة تأثير وفن جماهيري له قدرته على الوصول والنفاذ إلى قطاعات واسعة من المصريين. تمثّلت الخطوة الأولى في مشروع تدجين/تثوير السينما المصرية بإنشاء مصلحة الفنون، التي قامت بإنتاج العديد من الأفلام التسجيلية والقصيرة. أتبع ذلك، في العام التالي، تأسيس نادي الفيلم المختار، والذي ساهم بدوره في تجميع هواة السينما في مصر، وكان نواة لإنشاء معهد السينما فيما بعد (وهو المؤسسة الوحيدة الباقية حاليًا من آثار ذلك العهد).

في 1955، بدأ اهتمام رجال يوليو بالسينما كوسيلة تأثير وفن جماهيري له قدرته على الوصول والنفاذ إلى قطاعات واسعة من المصريين

وفي عام 1957، أنشأت الدولة "مؤسسة دعم السينما في مصر والعالم العربي"، وقد عملت هذه المؤسسة ذات الاسم الطموح والمتطلع على تحقيق 10 أهداف محددة:

- رفع المستوى الفني والمهني للسينما.

- تشجيع عرض الأفلام العربية داخل وخارج مصر.

- إقراض المشتغلين بالإنتاج السينمائي الهادف.

- الاهتمام بشؤون المشتغلين بصناعة السينما.

- منح جوائز للإنتاج السينمائي والمشتغلين به.

- إيفاد بعثات طويلة وقصيرة الأجل لدراسة فنون السينما.

- الاشتراك في مؤتمرات ومهرجانات السينما الدولية.

- إيفاد مبعوثين رسميين لدراسة أسواق الفيلم العربي.

- إقامة أسابيع للأفلام المصرية بالخارج.

- إقامة أسابيع للأفلام الأجنبية داخل مصر.

اقرأ/ي أيضًا: سينما مصر.. سينما يوليو: سيرة البدايات

في عام 1958، تحوّلت مؤسسة دعم السينما إلى "المؤسسة المصرية العامة للسينما"، مع الاحتفاظ في جدول طموحاتها بتحقيق نفس الأهداف السابقة، وكانت هذه المؤسسة هي قاعدة القطاع العام في السينما الذي استمر وجوده من عام 1963 حتى عام 1973. بعد ذلك التاريخ، سيتكفّل أنور السادات بنسف ميراث سلفه الراحل، والارتماء في أحضان الأسواق الحرة وسياسات الانفتاح.

الثورة في السينما

شهدت سنوات "الثورة" الأولى ظهور ما يسمّى بالأفلام "الوطنية"، وهي أفلام مُبسّطة وتكاد تكون ساذجة، عن الكفاح ضد الاحتلال والإقطاع، مثل فيلم "مصطفى كامل" (1953) وفيلم "الله معنا" (1955)، وكلاهما للمخرج أحمد بدرخان. كما أخرج حسين صدقي عام 1952 فيلم "يسقط الاستعمار" الذي لم يبق طويلًا في الذاكرة.

لكن عام 1956، الذي شهد العدوان الثلاثي، انعكس على السينما المصرية في محاولتين متعجلتين، أولاهما فيلم "بورسعيد" (1957، عز الدين ذو الفقار)، والثاني فيلم "سجين أبو زعبل" (1957، نيازي مصطفى). ويستحق فيلم "بورسعيد" وقفة للحديث عنه، إذ أنه يعتبر، رغم مآخذ كثيرة عليه، أول فيلم في تاريخ السينما العربية يقوم بمحاولة تقديم صورة سينمائية لبطولة مدينة باسلة تقاوم الغزاة. صُوِّر الفيلم وسط أجواء القتال، وقبل أن ترحل القوات الغازية عن مدينة بورسعيد، حيث تسلل صنّاع الفيلم بمعداتهم عن طريق بحيرة المنزلة شمالي مصر، وقد نسجت أحداث الفيلم من واقع المدينة االمناضلة ومن بطولة الأهالي البسطاء والصيادين والفقراء. وقد صُوِّر وأُنتج في وقت لم تكن الأفلام السوفييتية أو أفلام الكتلة الاشتراكية التي تصوّر البطولة الجماعية للبسطاء والطبقات العاملة قد عرفت طريقها بعد إلى دور العرض المصرية، ما أعطى لفكرة إنجازه نوعًا من الريادة والأهمية.

عام 1956، الذي شهد العدوان الثلاثي، انعكس على السينما المصرية في محاولتين متعجلتين، أولاهما فيلم "بورسعيد"  والثاني فيلم "سجين أبو زعبل"

لكن هذه الفكرة تحديدًا - فكرة الريادة- يمكن دحضها كلية، مع حقيقة أن الفيلم أُنجز بتكليف مباشر من جمال عبد الناصر، لبث شحنة معنوية في أوساط المصريين، فما كان من فريد شوقي (بطل الفيلم ومنتجه الأساسي) إلا أن ذهب إلى بورسعيد مع المخرج/ الضابط السابق عز الدين ذو الفقار، وعاين الخراب الطازج في شوارعها ومبانيها، وشرعوا جميعًا، بمعاونة أهالي بورسعيد، في لضم وتلصيق مجموعة من المشاهد التي خرجت نتيجتها النهائية كمنتج فني درجة ثانية يشبه كثيرًا، في رداءة تنفيذه، أفلام ما يعرف باسم "بي موفيز" و"سلاش موفيز"، بصورة تعاكس النية الحقيقية من وراء صنعه. ليبقى فيلم "بورسعيد" شهادة سينمائية على محاولة أولى لتوثيق الشجاعة والبسالة المصرية في مواجهة الأطماع الاستعمارية للدول الكبرى، مثلما هو دليل فشل تاريخي على تهافت وهزال كل تخطيط ممكن لتوجيه السينما والفن عمومًا من جانب السلطة السياسية.

اقرأ/ي أيضًا: بعد أربعين عامًا.. تحيا "رسالة" مصطفى العقاد

أما الأفلام المصرية التي تناولت "الثورة" بشكل مباشر، فتنحصر في 6 أفلام:

1. ردّ قلبي (1957)

يأخذ الفيلم بناء تقليديًا حول قصة حب بين طرفين يقعان على طرفي نقيض اجتماعيًا وماديًا. نتابع الحبيبين، على ابن جنايني القصر وإنجي ابنة الباشا صاحب القصر، منذ الطفولة والصبا حتى الشباب، إلى أن يدخل علي الكلية الحربية بواسطة من معارف الأميرة إنجي. تقوم الثورة، بعد سنوات قلائل من تخرُّج علي ضابطًا في الجيش، لتعدل ميزان القوى لصالح ابن الجنايني الذي صار في السلطة وتصبح إنجي وأسرتها من أعداء الثورة وفلول العهد البائد. تُجرَّد عائلة إنجي من ممتلكاتها وأراضيها، لكن الحبّ، كوصفة سحرية، يتجاوز كل الأحقاد، ويتزوج البطلان، وتكون النهاية السعيدة.

والحقيقة، أن النهاية السعيدة للفيلم، إذ تأتي كمبرر وحل درامي يتبناه رجال السلطة الجدد لفكرة التصالح الطبقي؛ تعكس تبسيطًا جاهلًا وضحلًا عن طبيعة العلاقات الإنسانية وتعقيداتها السيكولوجية. فعلاقة غير طبيعية، مثل تلك التي تجمع علي وإنجي، لا يمكن تبريرها بطول قصة الحب بينهما ولا بتوفّر إنجي على سذاجة ملائكية وعقلية أميرات ديزني، بل إنه من المحتمل في ما هو قادم من عمر هذا الزواج بين طبقتين وعالمين متناقضين، تفجُّر الجراح القديمة والصراعات الطبقية. عمومًا، سيكون ممتعًا أن نرى فيلمًا عن شكل هذه العلاقة - المعضلة وكيفية استمرارها.

2. الأيدي الناعمة (1963)

في عهد القطاع العام، أخرج محمود ذو الفقار هذا الفيلم المأخوذ عن مسرحية بنفس الاسم لتوفيق الحكيم. ويحكي الفيلم عن الأمير الاقطاعي (أحمد مظهر) يحاول عبثًا تكييف أوضاعه مع مجتمع ما بعد الثورة، بعدما جُرِّد من أملاكه ولم يبق له سوى القصر الهائل الذي يعيش فيه وحده، بعد أن تركه الخدم والحشم وهجرته ابنتاه (ليلى طاهر ومريم فخر الدين) بعد زواج الأولى من مهندس ميكانيكي.

 والفيلم من الريبرتوار المصري الكوميدي الذي يعاد عرضه باستمرار على شاشات التلفزيون، فهو يتميز بخفة دم عالية في أسلوب الأداء وبالمواقف الطريفة والحوار الرشيق المليء بالحيوية. لكن المفتعل حقًا، هو أن ينجح الأمير السابق في التكيف مع الظروف القاسية للواقع الجديد، من خلال نفس الحلّ السابق، أي الحبّ، حين يقع في حب صباح، أخت الميكانيكي زوج ابنته، التي لم يكن يعترف بزواجهما للفوارق الطبقية بينهما، ومن ثمّ يتحول إلى إنسان جديد يؤمن بقيمة العمل ويعمل في وظيفة مترجم بإحدى الشركات السياحية ويقبل بقيم المجتمع الاشتراكي الجديد.

 

3. لا وقت للحب (1963)

عن قصة ليوسف إدريس قام أبو سيف بإخراج هذا الفيلم من بطولة فاتن حمامة ورشدي أباظة، وهو باكورة إنتاجات المؤسسة العامة للسينما، ولا يُعرض كثيرًا في التلفزيون المصري. يحكي الفيلم قصة الكفاح المسلح للفدائيين المصريين في منطقة القنال ضد الاحتلال البريطاني. ورغم أن الفيلم، كما يخبرنا عنوانه، يقول بأنه لا وقت للحب في زمن النضال ضد الاستعمار، لناحية اعتباره ترفًا لا يقدر عليه واحد من المناضلين، إلا أنه لا يستطيع التخلّص تمامًا من تقاليد السينما المصرية في فرض قصص الحب كأساس درامي لحكاياتها، فنجده يعلي من قيمة الحبّ بمفهومه الواسع والذي يصبح دافعًا أكبر للمقاومة من أجل إعلاء قيم الحرية والعدالة والاستقلال.

4. فجر يوم جديد (1965)

ظهر الفيلم بعد ثلاث سنوات من تطبيق القرارات الاشتراكية التي اعتمدها جمال عبد الناصر، ويتناول يوسف شاهين في فيلمه الجريء هذا قصة أسرة من أصول إقطاعية بعد تطبيق القرارات التي أخلّت ميزان التوازنات الطبقية وعجز هذه الأسرة عن التكيّف مع الواقع الجديد.

بطلة الفيلم سيدة (سناء جميل) أضيرت بإصلاحات الثورة لكنها تواصل حياتها المعتادة الحافلة بالبذخ والإسراف، وهي على علاقة بطالب شاب مؤمن بالثورة ومنتم لها، يفتح عينيها تدريجيًا على الحقائق الجديدة للمرحلة. لم يلق الفيلم النجاح الجماهيري ولا الاهتمام النقدي، مما أثر كثيرًا في نفس يوسف شاهين الذي عبّر عن ذلك بكلماته: "أردت في "فجر يوم جديد" أن أعبّر عن مصر التي ولدت بعد القرارات الاشتراكية، وكنت مهتمًا بها وأدركها تمامًا، ومصر التي تحاول أن تجهض التجربة وتدمّر كل شيء، وأحسست أني كمن يؤذّن في مالطة. ولم يلتفت أحد إلى الفيلم، فقررت الهجرة إلى أمريكا، بعدما شعرت أن الاشتراكية التي نحلم بها عندما تحققت تحوّلت إلى بيروقراطية متسلطة".

5. السمّان والخريف (1967)

 عن رواية لنجيب محفوظ نُشرت عام 1962، أخرج حسام الدين مصطفى هذا الفيلم، الذي قصته في حقيقتها رثاء حار لجيل من الثوّار الفاسدين. فبطلها عيسى الدبّاغ (محمود مرسي) وفدي قديم ضحّى بشبابه في سبيل الثورة ضد الاحتلال والفساد ودخل السجن مرات عديدة ولكنه بعد صعوده مع حزبه الذي انتصر في الانتخابات، يبدأ سلوكه في الانحراف. يصبح مرتشيًا ويحقق ثراءً ملحوظًا. وفجأة، تحدث الثورة التي طالما حلم بها وتحقق الأهداف التي ناضل من أجلها زمنًا طويلًا، لكنه بدلًا من أن يلتحق بصفوفها، يُحال إلى "لجنة تطهير" تحقق معه وتدينه وتحيله للمعاش وهو في قمة عطائه، ليضيع بعدها في زوايا النسيان، ويتابع، والحسرة تنهشه، قضايا وطنه الذي يخوض نضاله في الداخل والخارج.

ومع الأسف، فقد شوّه حسام الدين مصطفى رواية نجيب محفوظ التي كانت بمثابة مرثية للمناضلين القدامى الذين فقدوا الطريق الصحيح، فقد انزلق الفيلم في رواية تفاصيل علاقة البطل بفتاة ليل (نادية لطفي)، وتحوّل الفيلم إلى نوع من الدفاع الحار عن روح وبطولة فتاة ليل تابت وأنابت وعادت لجادة الصواب.

6. غروب وشروق (1970)

"غروب وشروق" هو واحد من أكثر الأفلام شهرة في ما يخصّ ثورة 23 يوليو والأحداث المثيرة التي سبقتها، ولا تمرّ مناسبة الاحتفال بذكراها دون أن يذيع التلفزيون المصري هذا الفيلم الذي أخرجه كمال الشيخ، المتميز بأسلوبه البوليسي المثير وعنصر الترقب والتوتر الذي يستولي على المشاهد ويأخذ بتلابيبه حتى اللحظة الأخيرة.

المثير والمدهش في موضوع الفيلم، أن أبطاله الثلاثة (رشدي أباظة وصلاح ذو الفقار وإبراهيم خان) لم تكن لديهم أية علاقة بالحركة السياسية المغوارة في البلاد، فهم شباب يشغلون أوقات فراغهم القليلة بالمغامرات العابرة مع النساء اللاتي يلتقون بهن في مجال عملهم كطيارين مدنيين بإحدى الشركات. لكن الحظ العاثر يوقعهم في ابنة رئيس القلم السياسي (سعاد حسني)، ويُقتل أحدهم، وهو زوجها، بعدما اكتشف خيانتها له.  المسؤول عن القتل هو الباشا والد الزوجة الخائنة (محمود المليجي)، لذلك يقرر الصديقان الانتقام منه، عن طريق الانضمام إلى التنظيم السرّي للضباط الأحرار، ويساعدا في كشف جرائم الباشا الظالم، واسقاطه، تزامنًا مع الإطاحة بالملك، وتغرب شمس العهد البائد كي تشرق شمس الثورة المباركة.

الستينيات.. وسيطرة القطاع العام

في عام 1962، وبعد صدور القرارات الاشتراكية، حاولت حكومة الثورة بسط هيمنتها على صناعة السينما في مصر، فتم إنشاء القطاع العام في السينما، في محاولة لخلق تيار للسينما "الوطنية" الشابة يعكس آمال وأهداف المرحلة الجديدة. ولكن الرأسمالية المصرية التي كان لها اليد الطولى في السيطرة على صناعة السينما إنتاجًا وتوزيعًا، لجأت إلى فرض حصار واسع على القطاع العام في السوق العربية. وفي الوقت الذي كانوا يسيطرون فيه على مقدراته ويصنعون الأفلام لحسابه بأجور وتكاليف مرتفعة، كانوا يوظّفون الأموال التي يُرِّبت لإنتاج أفلام مصرية بنفس المخرجين والممثلين والفنيين للتوزيع في البلاد العربية.

بعد صدور القرارات الاشتراكية، حاولت حكومة الثورة بسط هيمنتها على صناعة السينما في مصر، فتم إنشاء القطاع العام في السينما

وتقلّص دور القطاع العام في سنواته الأخيرة، في أعقاب هزيمة 1967، إلى مجرد القيام بوظيفة الممول لإنتاج الأفلام التي يشرف عليها هؤلاء الذين نهبوا وخرّبوا القطاع العام. ولم يلبث هذا القطاع أن تلاشى مع قدوم السبعينيات لتعود رؤوس الأموال الهاربة والمهرَّبة لتحكم قبضتها على صناعة السينما في مصر.

اقرأ/ي أيضًا: السينما المصرية.. شريط يروي حكاية قرن

لكن القطاع العام، رغم كل شيء، ترك بصمات واضحة في الإنتاج السينمائي وفي الأجيال الجديدة من المخرجين الشبان الذين استفادوا منه والذين ظهرت أفلامهم في تلك الآونة. ففي تلك الفترة، ظهر "المومياء" لشادي عبد السلام و"الجبل" لخليل شوقي و"زوجتي والكلب" لسعيد مرزوق و"القاهرة 30" لصلاح أبو سيف و"الأرض" ليوسف شاهين و"الحرام" لهنري بركات و"الرجل الذي فقد ظله" و"ميرامار" وكلاهما للمخرج كمال الشيخ و"مراتي مدير عام" لفطين عبد الوهاب و"البوسطجي" لحسين كمال. كل هذه الأفلام أصبحت علامات سينمائية وحفرت لنفسها مكانًا في قائمة أفضل وأهم إنتاجات السينما المصرية، وربما يمثّل هذا الميراث الحكومي الحسنة الوحيدة لـ "ثورة 23 يوليو" ورجالها ضمن ما فعلوه بالسينما المصرية، التي حاولوا تدجينها وتوجيهها حصرًا لتصبح بوقًا إضافيًا في كورال تمجيد الثورة باسم الوطنية والاشتراكية وبعض الأكاذيب الأخرى.

 

اقرأ/ي أيضًا:

بين سينما مصر و"ثورة" ضباطها (1-2)

بين سينما مصر و"ثورة" ضباطها (2-2)