10-نوفمبر-2017

ألان باديو

نشر ألان باديو هذا المقال للمرة الأولى باللغة الفرنسية في عدد خاص من صحيفة L'Humanité الفرنسية عن ثورة تشرين الأول/ أكتوبر.


أود أن أؤكد على نقطة يبدو أنها قد ذهبت طي النسيان هذه الأيام، لا سيما بعد الانتصار الواضح الذي حققته الرأسمالية على المستوى العالمي: لقد كانت الثورة الروسية التي اندلعت عام 1917، حدثًا لم يسبق له مثيل في تاريخ الجنس البشري.

كانت الثورة الروسية التي اندلعت عام 1917، حدثًا لم يسبق له مثيل في تاريخ الجنس البشري.

يجدر بنا إذا ما أردنا أن نتحدث بشكل عام، أن نتذكر أن التاريخ البشري قصير إلى حد كبير. إذ لا يتعدى هذا التاريخ 200 ألف سنة، وهو ليس بالوقت الطويل مقارنة بملايين السنين التي سيطرت فيها الديناصورات على الحياة فوق هذا الكوكب. خلال تلك الفترة القصيرة، يمكننا أن نتفق على أن ثمة "ثورة" واحدة أساسية، هي الثورة الحجرية الحديثة. فقد أسفرت تلك الثورة عن ظهور أدوات أكثر فعاليةً، والمزيد من الاستقرار الزراعي، ومفهوم ثابت لملكية الأراضي، والأواني الفخارية، بالإضافة إلى إمكانية توافر فائض غذائي يسمح بوجود طبقة حاكمة غير مضطرة إلى العمل، ما أدى إلى ظهور مفهوم الدولة، والكتابة، والنقود، والضرائب، ومن ثم صناعة المعدات العسكرية – بفضل اكتشاف البرونز - والأعمال التجارية في الأراضي البعيدة.

اقرأ/ي أيضًا: عزمي بشارة في كتاب حواريّ.. في نفي المنفى

كل ذلك يرجع تاريخه لبضعة آلاف من السنين فحسب، ولا نزال عند نفس النقطة. على الرغم تسارع عمليات الإنتاج الصناعي اعتمادًا على العلوم الحديثة، إلا أن عالمنا في حقيقة الأمر لا يزال عالم الدول المتنافسة، والمتحاربة، والأقلية متناهية الصغر من النخب الحاكمة المتحكمة في الثروات والمتصارعة على الهيمنة، والتي تولي أهمية كبرى للتجارة الدولية، والتي تتنمر عسكريًا على بعضها البعض من أجل المواد الخام، بينما تعاني أعداد مهولة من البشر تُقدر بالملايين من الفقر المدقع. علاوة على وجود حركة جماعية مستمرة من الفلاحين الفقراء من كافة المناطق، تتجه إلى المدن الحضرية المكتظة من أجل الحصول على دور أو وظيفة ثانوية.

قبل أزمان طويلة، وعلى الأرجح قبل عدة قرون مضت، بدأت مسألة الأسس الاقتصادية للدول تجد طريقها إلى قلب النقاشات السياسية. ومنذ ذلك الحين، أصبح في متناولنا أن ندعي، أو حتى نثبت أن نفس المنظومة الاجتماعية الجائرة العنصرية، تستطيع التوطن في أي مكان متنكرةً في أي شكل من أشكال الدولة – سواء في صورة سلطة فردية أو ديمقراطية - أي أنه يمكننا القول إن هذه المنظومة، المنوط بها اتخاذ القرارات الأكثر أهمية على مستوى الدولة بكل ثبات وثقة، التي تولي اهتمامًا مطلقًا إلى حماية الممتلكات الخاصة، وتناقل هذه الممتلكات عبر الأسرة، وأخيرًا، الحفاظ على استمرار عدم المساواة الفاحشة في شتى أوجه الحياة، هي ما استقرت لتكون أمرًا طبيعيًا لا مفر منه.

ثم طُرحت بعد ذلك مبادرات ثورية تختلف تمامًا عن تلك الأنظمة التي تنتقد فقط الشكل السياسي للسلطة. وقد تميز القرن التاسع عشر بأمثلة كثيرة من تلك المحاولات الثورية المنادية بهذا التوجه، والتي انتهت في أغلب الأحيان بشكل دموي. ولاتزال الثورة الفرنسية الرابعة – أو ما يُعرف بكومونة باريس - والتي سقط فيها ثلاثون ألف قتيل، أبرز الكوارث الدموية لهذه المحاولات.

المفكر ألان باديو: أصبح حكم الرأسمالية شيء من الماضي وإلى الأبد

لذا، دعونا نقول إنه في ظل ظروف إضعاف الدولة المركزية الاستبدادية الروسية، والتي أقحمت نفسها بتهور في الحرب العالمية الأولى في الفترة ما بين عامي 1914 و1918، وفي أعقاب اندلاع أول ثورة ديمقراطية محلية – خلال شباط/ فبراير من عام 1917 – التي أطاحت بهذه الدولة بوصول مجموعة من شباب الطبقة العاملة للحكم، تشكلت قوة ثورية دون توافر نقابات أو اتحادات محافظة تعمل على تأطيرها ووضع حدود لها، تحت قيادة الحزب البلشفي  صاحب التنظيم شديد الدقة، بالإضافة إلى جهود لينين وتروتسكي، اللذين جمعا بين الثقافة الماركسية الصلبة، والخبرة العسكرية الطويلة المستمدة من دروس كومونة باريس. اختلط كل ذلك في تشرين الأول/ أكتوبر لعام 1917، ليسفر عن أول نصر في التاريخ البشري يأتي بعد الثورة الحجرية الحديثة.

اقرأ/ي أيضًا: الصراع من أجل الاعتراف

يعني ذلك أن هذه الثورة التي كان هدفها محددًا ومعلنًا، وهو الإطاحة الكاملة بالأسس التي طال أمدها، في جميع المجتمعات "المعاصرة"، تلك الدكتاتورية الخفية لأولئك الذين يملكون الرقابة المالية على الإنتاج والتبادلات. كانت هذه الثورة بمثابة من شق الطريق أمام ترسيخ الحداثة الجديدة. كان الاسم الشائع لهذه الفكرة الجديدة كليًا – والذي استمر كما هو حسب رأيي – "الشيوعية". واعترف الناس جميعًا في شتى أنحاء العالم، وعلى اختلاف توجهاتهم، من عمال وفلاحين، مرورًا بجماهير البسطاء والمثقفين والفنانين، بهذه الثورة التي تحمل اسم "الشيوعية"، محتفين بها بحماسة تتناسب مع كم الرغبة في الثأر من الهزائم والإخفاقات التي تراكمت على مدار القرن الماضي. في ذلك الوقت كان بإمكان لينين أن يعلن: لقد حان وقت انتصار الثورات.

مهما كان الدعم الإلهي الذي ساند تلك المغامرة الفريدة، وأيًا كان الوضع الراهن حيث تأخذ النظم الحجرية المعاصرة بزمان الأمور مرة أخرى في جميع أنحاء العالم، فلا تزال الثورة الشيوعية التي اندلعت في تشرين الأول/ أكتوبر من عام 1917، هي قاعدتنا الأساسية لإدراك أنه على المستوى الزمني للإنسانية، أصبح حكم الرأسمالية شيء من الماضي وإلى الأبد. على الرغم من إطلالها بين الحين والآخر.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الحياة العاطفية للفلاسفة

صادق جلال العظم.. الحوار لا يزال مفتوحًا