19-أغسطس-2017

دعا السيسي الإعلاميين إلى خلق فوبيا لدى المصريين من إسقاط الدولة (Getty)

قبل أسابيع قليلة، استمعت مثل غيري إلى حديث الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في مؤتمر الشباب، حين خاطب إعلامييه مطالبًا إياهم بتغذية "فوبيا" لدى المصريين تُخوّفهم من إسقاط الدولة. في البداية تصوّرت أنني لم أستوعب كلام الرئيس جيدًا، أو أن الرجل خانته العبارة فكل ابن آدم خطّاء، ولكن الكلمات التالية للسيسي أكدت ما يقصده تمامًا.

استمر سيادته في شرح وتفصيل أبعاد "خطته"، فتحدث من جديد عن ثورة 25 يناير دون تسميتها، وأعاد كلامًا مشبوهًا مكرورًا حول مخطط ما كان يُحاك داخل الدولة المصرية في 2011، كاد يؤدي "بنا"، إلى أن يحدث في مصر مثلما يحدث في دول مجاورة (يقصد سوريا وليبيا واليمن). وتحدث أيضًا عن محاور لما أسماه "استراتيجيته" و"رؤيته" لـ "تثبيت الدولة المصرية"، كانت تسير عكس عوامل هدم الدولة وضد العوامل الهادفة لتدميرها، كما أوضح.

 لم يكن غريبًا أن يدعو السيسي إلى "فوبيا" إسقاط الدولة، وهو الذي جاء السلطة دون أي طرح سياسي محدد

ثم دعا المفكرين والإعلاميين لتخصيص أسبوع كامل لتحذير وتخويف المواطنين والتأكيد على "فوبيا" إسقاط الدولة المصرية، التي وفقًا له بدأت منذ 2011، ولكنه استطاع الوقوف أمامها، يسانده شعب مصر، على حد قوله، رغم إشارته إلى أن بعض المصريين ساعدوا بعلم أو دون علم في مخطط إسقاط الدولة المصرية!

اقرأ/ي أيضًا: الدولة الفاشلة: فزاعة الدولة الأمنية في مصر لتبرير القمع

المشكلة ليست هنا، فالحديث السابق، وما هو أبعد منه، ليس بغريب على الرئيس المصري، الجنرال السابق الذي جاء إلى السلطة بدون أي طرح سياسي أو برنامج انتخابي أو أي شيء متعارف عليه في الديمقراطيات المحترمة، واستعان وحيدًا بخطاب الثالث من تموز/يوليو 2013، لتأسيس شرعيته على أنقاض حكم الإخوان. لكن المصيبة الكبرى تتمثل في الكيفية التي يستجيب بها غالبية العاملين بالمجال الإعلامي المصري، بنسختيه الرسمية وشبه الرسمية، لما يقوله الرئيس، وما تعنيه تلك الهرولة التي نراها على صفحات الجرائد وشاشات التلفزيون لأشخاص لا يتورّعون عن تدبيج الجمل المجانية المبتذلة الفاقدة لأي منطق لتأكيد اللاشيء وأي شيء يتفوّه به الرئيس.

ففي الأيام التالية انطلقت جوقة متكاملة من الأصوات الصحفية والإعلامية، محسوبة على السلطة الحالية أو منافقة لها، للحديث عن حكمة الرئيس ووعيه بالمخططات التي يحيكها طيور الظلام لمصر والمصريين، بل وطالب البعض بضرورة تقديم هذه "الاستراتيجية" لرجل الشارع جنبًا إلى جنب مع استراتيجيات حروب الجيل الرابع، "لأن كلاهما يسعى للهدف ذاته"! 

ثم في الأسبوع التالي مباشرة أعطى حسين زين، رئيس الهيئة الوطنية للإعلام، توجيهاته لإعداد خريطة برامجية تحت شعار "حماية الدولة المصرية من التفتيت والتوعية بمخاطر إسقاطها"، يساهم فيها قطاع الأخبار بالتلفزيون الحكومي بإعداد فترات مفتوحة وتطويع برامج من أجل أن "يقوم الإعلام الوطنى بدوره فى زيادة الوعى لدى المواطنين نحو التحديات والمخاطر التي تواجه الوطن"، كما يقولون.

يصل الغباء السياسي بصاحبه إلى تكرار نفس الأخطاء مرات عدة، دون الاستفادة من تجاربه السابقة اعتمادًا على ثقة مغلوطة

الأغرب، هو ما يطالعه المرء في صباح يوم حار مقرف عن اجتماع لمجلس إدارة الاتحاد المصري لجمعيات المستثمرين، يتم خلاله "مناقشة تشكيل فريق عمل لتجهيز دراسة قابلة للتنفيذ حول تثبيت أركان الدولة المصرية، ومجابهة محاولات إفشالها، ووضع الخطط والتصورات لذلك". مطالعة ذلك الكمّ من الهراء بصورة يومية هو أشبه بحفلة تعذيب صباحية يضطر فيها الصحفي، أو من تدفعه ظروف عمله لمتابعة أخبار مثل هذه؛ للتعامل بجدية مفترضة من أجل الوقوف على أبعاد توجّه الدولة حاليًا، وما يدور في عقل السلطة، أو بالأحرى ما يدبّره رجالها للمصريين ممن يُصدَّر تجاههم روحًا عدائية تنطق في كل تصريحات وتصرفات هؤلاء الرجال المتنفذّين، وفي أقل الأحوال وصائية حمائية استعلائية، رغم أن غالبيتهم جاؤوا إلى مناصبهم بالولاء لا الكفاءة، ورغم أنهم فاشلين سياسيًا، فضلًا عن غياب البعد الثقافي والبحثي عن حصيلة خبراتهم.

الغباء السياسي

في دراسة عن الغباء السياسي يورد الكاتب والطبيب النفسي محمد المهدي، عددًا من العلامات التي يعتبرها تأكيدًا على ما أسماه "الغباء السياسي" لدى مستخدمها، من بينها الإفراط في استخدام الدفاعات النفسية، وهو يظهر في أكثر من صورة فأحيانًا يأخذ صورة الإنكار حيث لا يرى السياسي المشهد كما هو في الحقيقة وإنما يراه كما يحب هو أن يكون، وأحيانًا يلجأ السياسي إلى التبرير حيث يبرّر كل ما يقترفه من أخطاء ويعزوها إلى عوامل أخرى ليس مسؤولًا عنها لكي يظل مرتاح الضمير، وغالبًا يعتمد على لعبة الإسقاط، بمعنى إسقاط ما بداخله من نيّات ومشاعر وتوجهات سلبية أو عدوانية على الآخر، فتتشكّل صورة الآخر لديه مصطبغة بما في داخل نفسه من تشوهات فيكرهه لأنه لا يتحمّل رؤية هذه التشوهات في نفسه!

اقرأ/ي أيضًا: في الدولة الوطنية المصرية ومآلاتها البائسة!

ومن بين العلامات الأخرى التي يشير إليها المهدي في دراسته، الانفصال عن الوقع، وهو ما يحدث نتيجة الإفراط في استخدام الدفاعات النفسية، وتكون نتيجته حالة من العمى السياسي، تجعل صاحب القرار يتخبط في الظلام، ثم يحاول إصلاح أخطاءه.

لكن الغباء قد يصل إلى مرحلة متقدمة فتجد رجل السياسة يكرر نفس الأخطاء مرات عديدة دون الاستفادة من التجارب السابقة، معتمدًا على ثقة مغلوطة بنفسه، وبالتالي يكون مصيره تكرار تجارب الفشل بلا نهاية. وبما أن التاريخ لا يخلو من الأغبياء الذين توقع الصدفة أقدار الملايين بين أيديهم، فإن استمرار السياسي الغبي في استخدام غبائه، يؤدي مرحليًا إلى فقد آلية المراجعة أو ما يُطلق عليه "التغذية الاسترجاعية"، والتي من المفترض أنها تُصحِّح المسار. ثم يفقد القدرة على الاعتذار حين يكون الاعتذار واجبًا، ويستمر في المكابرة والتعالي والمغالطة وتوجيه اللوم للآخر.

ويكمل المهدي بأن الغبي سياسيًا يتبنى وجهة الضبط الخارجية، بمعنى اعتقاده أن الأحداث تسير وفق المؤامرات الخارجية أو الحظ أو الصدفة أو المجاملات، وبالتالي ينفي عن نفسه المسؤولية في ما يجري وينتظر الحل دائمًا من عوامل خارجية تساعده. كما يُصرّ الغبي سياسيًا على جني كل المكاسب وتكبيد الطرف الآخر كل الخسائر، وبهذا يفقد القدرة على التحاور أو التقارب أو تقديم بعض التنازلات الممكنة ويظل متمسكًا برغبته الطفولية في الحصول على كل شيء وهزيمة خصمه بالضربة القاضية حتى لا تقوم له قائمة.

الغباء السياسي يدفع صاحبه إلى أن يُسقط توجهاته السلبية على الآخر، فتتشكل لديه صورة عن الآخر تحمل كل ما يكرهه في نفسه

صفات أخرى يمتلكها الغبي سياسيًا ربما يمكننا تخمينها أو ملاحظتها بالمتابعة الدورية لأحداث العالم وتقلباته. فالبعض يعتبر أننا نعيش عصرًا يتحكم فيه الأغبياء والمضطربين نفسيًا في مصائر الدول والأفراد، ولا يبتعد كثيرًا عن الدقة القول بوجود نماذج ممن تنطبق عليهم الأوصاف والحالات السابقة  في الساحة العربية والعالمية حاليًا.

اقرأ/ي أيضًا: تكلفة بقاء نظام السيسي

لا نزكّي أحدًا منهم على اجتماع كل الصفات فيه وحده دونًا عن بقية زملائه، لكن الغباء السياسي يجعل الأمور سهلة على القوى الدولية لتنفيذ كل ما ترغبه من مخططات لتحقيق مصالحها في المنطقة العربية، وهذا ما يحقق نجاحات "حروب الجيل الرابع" التي يحذرنا منها "الخبراء" العسكريين والاستراتيجيين وربّات البيوت ومقدمي برامج الفضائح على مدار اليوم. أن يحارب الشعب نفسه بنفسه، لأن "الرجل الكبير" قسّم المجتمع إلى فرقاء يحاربون بعضهم بعضًا، بينما يتفرّغ هو ورجاله لجني المكاسب أو لإعادة تشكيل المشهد بما يخدم مصالحه.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

السلطة المصرية تطارد "أشباح يناير" في المقاهي

طريق الإعلام في مصر.. "آخره لحن حزين"