13-مايو-2020

التكرلي والرواية

يتوجّه فؤاد التكرلي في روايته "بصقة في وجه الحياة" (منشورات الجمل، 2000) إلى قارئه واضحًا، مُقدِّمًا لهُ عمله هذا بصفته نصًّا معلونًا يرتفعُ بناؤه الهجين مُتحدّيًا بفجاجة قيمًا متوارثة من خلال التمرّغ العشوائيّ في المحرّمات.

في البحث عن تعريف دقيق لـ"بصقة في وجه الحياة"، يُمكن القول إنّها عبارة عن مونولوج من طرف واحد

يتوصّل الروائي العراقي في نهاية المطاف إلى هدم نفسه بنفسه، دون أن لا يفوتهُ أن يُذكِّر قارئه بأنّ النّص الذي بين يديه، وعلى الرغم من فجاجته الفنّية وسوقيته أحيانًا وركاكة لغته أيضًا، إلّا أنّه لا يزال يُذكّره بعالمه الذي اندثر بالكامل، وبوضعه النفسيّ آنذاك، أي حينما كتبه نهاية الأربعينيات.

اقرأ/ي أيضًا: حوار| فرانشيسكا بيلينو: الأدب فرصة لنضع أنفسنا في مكان الآخرين

كتب التكرليّ مقدّمة ملغومة، يصير عندها البحث عمّا تختلف به "بصقة في وجه الحياة" عن بقية ما كتبهُ، أمرًا ملزمًا أو ملحًّا. فعدا عن أنّها روايته الأولى، وأكثر رواياته تجريبية، إلّا أنّ هناك أيضًا ما يُميّزها عن سواها، كقدرتها مثلًا على توليد مشاعر غامضة في نفوس قرّائها أوّل الأمر، قبل أن تبدأ فيما بعد، لربّما على مشارف نهايتها، بأخذ أشكالٍ لا حصر لها، دون أن يعني ذلك زوال غموضها، لأن الأشكال المقصودة هنا ليست على مستوى واحد ولا تنظر إلى الرواية بنفس النظرة، إذ تبدو للبعض أقرب إلى متاهة أو مساحة مفتوحة على الحيرة، وتبدو قصّتها نتنة أو دنسة، بينما تبدو على الجهة المقابلة عكس هذا تمامًا.

يُمكن أن نُضيف أيضًا أنّ التكرلي جعل في روايته هذه من المقروء قارئًا، ومن الآخر بطلًا، والآخر هنا ليس إلّا الفكرة أو الأفكار التي تردُ على لسان الراوي الذي لن يكون بطلًا بمقدار ما سيكون راويًا لكلّ ما يدور في خلد الكاتب من أفكار وهواجس. من قرأ الرواية قد يظنّ أنّ المقصود بأفكار الروائي العراقي هنا هي أفكاره حيال قصّة الرواية، أي اشتهاء أب لابنته جنسيًا؛ ولكنّ القصد أفكاره حول الحياة والموت وتحديدًا تلك التي تتشكّل في أوقات الأزمات النفسية الحادّة. فالقصّة التي ترويها الرواية أقرب إلى قالب ربّما أو مُحاولة للتمويه، والرواية ليست إلّا حيّزًا مكانيًا ألقى فيه التكرلي ما راوده وشعر به في ظروف نفسية مُعيّنة، وسيئة.

بمعزلٍ عن صاحب "الرجع البعيد" الذي سنضعهُ جانبًا بعد أن حاولنا أن نبيّن الغاية من روايةٍ اعتبرتها شريحة واسعة من القرّاء دعوة إلى الفجور والفحش والدناسة بناءً على ما ترويه، دون النظر بتريّث إلى ما جاء على هامش القصّة نفسها، والذي يؤكّد أنّ القصّة ناقصة وغير مكتملة بالشكل الذي يجعل منها قصّة يُمكن لنا أن نتعامل مع الرواية من خلالها؛ سنُحاول قدر الإمكان معاينة ما ورد من أفكار على هامشها بطريقة مكّنتها من أن تشكّل قصّة موازية للقصّة الرئيسية الظاهرة.

تحمل رواية "بصقة في وجه الحياة" على عاتقها خلق اتّزانٍ ما بين الانشغال بمشاكل الإنسان، وبين الانصراف إلى الأسئلة الوجودية الكبرى

في البحث عن تعريف دقيق لـ"بصقة في وجه الحياة"، يُمكن القول إنّها عبارة عن مونولوج من طرف واحد، أو بوح لرجل مكسور وجد نفسه فجأة يشتهي ابنته الصغيرة، دون أن يكون مُتاحًا معرفة ما إذا كانت هذه الرغبة شهوة جنسية حيوانية بمعنىً ما ينطوي على قدرٍ من الدناسة حقًّا، أو أنّها نتيجة أشياء أخرى دفعتهُ إليها. ودون أن يكون ممكنًا التأكّد من مسألة السلامة العقلية للراوي، لا سيما أنّ ما يقصّه بدا أقرب إلى هذيان شخص مُصاب بحمّى موجودة في مخيلته، لذا لا يكون وفي الكثير من الأحيان مفهومًا تمامًا، وهو نفسه أيضًا يعرف أنّه ليس مفهومًا، وأنّ أفكاره بدورها لا تكون مفهومة بالنسبة له دائمًا، الأمر الذي سيدفعه للقول: "فجأة انتبهت إلى سخافة أفكاري وبعدها عن المنطق والعقل. وأحسست إحساسًا غامضًا أنّني أُقاد معصوب العينين إلى هاوية سوداء لا أعرف لها قرارًا". (ص 23).

اقرأ/ي أيضًا: فوضى أروندهاتي روي الرائعة

ترتبط أفكار الراوي وهواجسه وما يهذي به أيضًا بهزيمةٍ ما جاءت بها، أو ربّما جُملة هزائم ولّدت عندهُ ما يدفعهُ بشدّة نحو الهاوية. لا نعرف الكثير من التفاصيل عن حياة الراوي، كما لا نعرف تفاصيل هزائمه السابقة، ولكنّ غياب ماضيه أو حذفه من القصّة تمامًا، يوحي بأنّ هناك حادثة أو هزيمةً ما لا يريد استعادتها. في المقابل، وبينما نجهل ما حدث سابقًا، سنرافق الراوي في رحلته نحو هزيمته الأخيرة، ذلك أنّ الهاوية ليست إلّا هزيمة جديدة، قد يتبدّل شكلها ولكنّها هزيمة في كلّ الأحوال، فحينما يتعلّق بابنته الصغيرة، يكون في واقع الأمر قد تعلّق بحلمٍ مستحيل ودنس أيضًا، لأنّ مجرّد التفكير بها بهذه الطريقة تُعدّ هزيمة، وإن اقترب منها لن ينال غير الهزيمة، وإن ظلّ بعيدًا لن يتبدّل الأمر ولن يكون بمنأى عن الهزيمة إطلاقًا.

يُحاول بطل "بصقة في وجه الحياة" بعد إدراكه بأنّ هزيمته حدثت أساسًا حينما اشتهى ابنته ورغب بها أيضًا، ولكنّه يرفض الإقرار لنفسه بحدوثها لأنّ شكلها لم يُحدَّد بعد؛ أن يتغلّب على نفسه وأفكاره المتكاثرة على نحوٍ يدفعهُ إلى القول: "فظيع... فظيع حقًّا! إنّني أخشى من الأفكار التي تريد أن تولد في ذهني" (ص 24). هكذا، يصير مهووسًا بهذه الأفكار التي يسعى إلى الفكاك منها كونها تدفعهُ باتّجاه خطيئةٍ يكون مندفعًا إليها حينًا، أو بعيدًا عنها حينًا آخر، غير أنّ حالة الارتباك والحيرة بين أن يقترب أو يبتعد، تظلّ قائمة برفقة سؤال: "ربّاه، إلى أين تقودني الحياة هذه الحياة القاسية، القاسية حتّى الموت التي تظهر لبصري الطريق الفظيعة البشعة وتجبرني على السير فيها؟" (ص 24).

كتب صاحب "المسرّات والأوجاع" رواية تحملُ على عاتقها خلق اتّزانٍ ما بين الانشغال بمشاكل الإنسان صغيرةً كانت أو كبيرة، وبين الانصراف إلى الأسئلة الوجودية الكبرى، وذلك بشكلٍ بدت عليه هذه المُحاولة الأساس الذي نهضت عليه الرواية، لأنّ الموازنة نفسها بين هموم الفرد والأسئلة الكبرى تُحاول أن تربط بينهما، باعتبار أنّ همومه تولّد أسئلة كبيرة تولّد بدورها همومًا إضافية، فتكون هذه الأسئلة هنا مسؤولة عن تشكيل بطل الرواية الذي بدا مغمورًا بالهزيمة، ومتوحِّدًا مع شكل الرواية التي تبدو مفكّكة أو رخوة وحتّى فجّة، بينما هي في حقيقة الأمر كُتبت على هذا الأساس، أي عمدًا حتّى تكون متوافقة بنسبة عالية مع بطلها.

إنّها بهذا المعنى ليست رواية للتسلية، وليست دعوة للفجور ولا الفاحشة، وإنّما لمعاينة تأثير الهزيمة وبمختلف أشكالها على الفرد الذي يصارع أفكارًا أفرزتها الهزيمة نفسها، ودفعتهُ باتّجاه أسئلة ينتبه لها حينما تنبّهه هزائمه إلى وجوده بصفته كائنًا مهزومًا لا يأمن على نفسه بين أحد: "من قال إنّا نعيش بأمان وحتّى بين أقرب الناس إلينا؟؟ كلنا عوالم في حروب، عوالم لها مسالك هجوم ولها مواقع دفاع. ففي حركة هدب سريعة أو في لهجة جملة عابرة، يمكنك أن تفضح انهزامًا غير متوقّع أو استعدادًا لهجوم مجتاح" (ص 68).

يقول بطل رواية "بصقة في وجه الحياة": "الحياة الناقصة التي نعيشها لا بدّ أن تكون من صنع شيء ناقص أيضًا، شيء لا يدرك ماذا ينقصه"

بصرف النظر عن القصّة التي لا تبدو مهمّة بقدر الأفكار المحكية على هامشها، رغم تعامل شريحة واسعة من القرّاء مع الرواية بناءً على حكايتها فقط، لا سيما أنّها ومن خلال الطريقة التي رويت بها، بدت أقرب إلى هذيانٍ متواصل لشخصية بناها فؤاد التكرلي لتكون إمّا حمّالة أفكار قاتلة أو هدّامة، وإمّا ضحية لهذه الأفكار والأسئلة التي يتضاءل وجودهُ عندها، ممّا يدفعه إلى الاعتراف: إنّي أخاف أحيانًا، أخاف أن أنبش قيعان نفسي المظلمة، أن أجد الله فإذا بكياني كلّه زيف وفراغ" (ص 92).

اقرأ/ي أيضًا: يحيى حسن.. القصيدة الموقوتة

تتداخل الأفكار والهواجس على بطل "بصقة في وجه الحياة" إلى أن تتمخّض عنها جميعها فكرة واحدة فقط: "الحياة الناقصة التي نعيشها لا بدّ أن تكون من صنع شيء ناقص أيضًا، شيء لا يدرك ماذا ينقصه" (ص 31). على هذا الأساس، يذهب نحو الإقرار بهزيمته الأخيرة بعدما أفرغ ما في جعبته من أفكار بدت نتيجةً طبيعية لظروفٍ نفسية غير طبيعية، وذلك من خلال تحديده لشكلها؛ لن ينام مع ابنته، سيتوقف عن اشتهائها ولن يخرج عمّا هو مألوف ومتوارث، ولكنّه في المقابل، سيقتلها، بعد أن ترسّخت في قناعته فكرة أنّه السخرية الحقّ.

 

اقرأ/ي أيضًا:

هل يختفي كاظم جهاد خلف رامبو؟

4 روايات عربية لعطلة نهاية الأسبوع