01-مارس-2019

عن المترجم (The Economist)

في رواية "قتلة"، تتحدّث إحدى الشخصيات الثانوية التي رسمها الكاتب العراقي ضياء الخالدي عن شخصية هامشية تبيع السمك. شخصية شاب عشريني ينتمي إلى طائفة معينة يتم اختطافه من قبل الجماعة المعادية، وحينما تحاول الشخصية الثانوية الدفاع عنه تستخدم عذرًا سيبدو غريبًا للوهلة الأولى إن لم تكن عراقيًا مسلمًا (*)؛ "حتى إنه يبيع الجري". الجري هو نوع من أنواع السمك.

يشجع إيكو على الخيانة الظاهرة لبعض النصوص، مدعيًا أنها وفاء للنص على أية حال

لنفترض أنك أوروبي أو أمريكي وقد قرأت النسخة المترجمة من الرواية المذكورة، كيف يا ترى سيكون وقع هذا العذر على مسمعيك؟ ماذا ستفهم عندما تقرأه؟ وهل تمر عليه بذات السلاسة التي أمر بها أنا، الشابة العراقية التي ترعرعت وسط هذه المفاهيم؟

اقرأ/ي أيضًا: الترجمة وخلق القيمة في عالم الأدب

هنا، تبرز أهمية الترجمة بكونها تتعدى مفهوم النقل من لغة إلى أخرى وتتجاوزها لتكون "فهم النظام الداخلي للغة وبنية النص المكتوب بتلك اللغة"، كما يوضح أمبرتو إيكو في كتابه "أن نقول الشيء نفسه تقريبًا".

في ما يلي سأحاول معالجة ثلاث موضوعات اساسية بسيطة مستمدة من كتاب إيكو، بترجمة أحمد الصمعي.

 

في عمق الثقافة

"ينبغي في الترجمة عدم التعبير عن الكلمة بكلمة بل عن المعنى بمعنى"

  • القديس جيروم

لنبدأ بالترجمات الأدبية، دون الانخراط في الفلسفة، إن نقل رواية من لغة إلى لغة أخرى أمر في غاية الصعوبة والحساسية، فنحن هنا نتعامل مع ثقافتين مختلفتين بكليتهما، فمثلًا لو ذكر في رواية أجنبية العبارة: "it’s raining cats and dogs" والتي تعني حرفيًا: إنها تمطر قططًا وكلابًا. هل تعتقد أن من المعقول أن ننقل هذه العبارة -التي تعني مجازيًا أن السماء تمطر بغزارة- بصورة حرفية؟ أجل سيكون من المعقول جدًا إذ أخذنا فعل الترجمة بتعريفه المباشر؛ النقل من لغة إلى أخرى. وهو أمر من السذاجة بحيث يدفعك للاعتقاد أن المترجم أبله. لكن سيكون من المعقول نقلها بصورة حرفية متجاوزين البلاهة إذا كانت الرواية من صنف الخيال العلمي، أو مثلًا كان قائلها يعاني من مرض يجعله موهومًا وهو ينقل هذه الأوهام إلى طبيبه النفسي. معنى هذا أن نقل تركيبة بسيطة تعني في اللغة الإنجليزية شيئًا محددًا بصورة مجازية، معقدًا يحتاج إلى كثير من الاشتغال حسب الموضع الذي جاء فيه.

يستطرد إيكو بالأمثلة فيما يتعلق بهذا المفهوم مفترضًا أن الشخصية في الرواية قد تكون فرنسية بمسحة أجنبية، أو قد تكون القصة منقولة إلى اللغة الإيطالية وهكذا.

القصد هنا كيف تستطيع نقل ثقافة بلد إلى ثقافة بلد آخر؟ وما هي الضوابط التي يجب أن يراعيها المترجم الحذق؟

هل تستطيع، عزيزي القارئ، أن تستحضر بعض الأمثلة من ثقافتنا العراقية الدارجة وتتفكر قليلًا في كيفية نقلها لقارئ عربي أو أجنبي؟ أتذكر مرة في رواية لضياء جبيلي أنه ذكر "حلاوة التمر"، وهو تقليد نقوم به نحن العراقيين في العزاء نصنع من التمر عجينة نضعها في "خبزة" صغيرة الحجم نلفها ونقدمها للحاضرين في مجالس العزاء.

أو مثلًا في روايات فؤاد التكرلي حينما يتحدث عن بعض العادات العراقية في بيوت حقبة الخمسينات، وهذه ربما تبدو غريبة بعض الشيء عنا نحن الجيل الجديد.

تكثر الأمثلة وتطول في منوال تصاعدي يوضح أن عملية الترجمة لا تبدو بالسهولة التي يعتقها البعض، ولا يجب النظر إليها باستخفاف.

الكثير من الأشخاص لا يعون مسؤولية المترجم، أخلاقيًا ومهنيًا، ومدى أهمية الترجمة على ثقافات البلدان المختلفة. إذ بقي فعل الترجمة محصورًا في تعريف ضيق الأفق فهي ستبقى ضيقة لا يعول عليها، ولن تقوم بعملها مطلقًا.

 

مبدأ التفاوض

للترجمة تعاريف عديدة، أغلبها كما يعبر عنها إيكو "تحصيل حاصل"، ولكنه في كتابه "أن نقول الشيء نفسه تقريبًا" يحاول أن يجد أكثر من تعريف ليفي حق الترجمة.

التفاوض عملية مهمة في فهم الكون وكل الثقافة الواقعة خارج النص

من المفاهيم المهمة، والتي يحاول تسليط الضوء عليها هي مبدأ التفاوض؛ وهو أمر يجب أن يتم بين المؤلف والمترجم، بعض التعبيرات أو الكلمات لديها الكثير من المرادفات، وربما كل مرادف يقوم بمهمة مختلفة كما أوضحت مسبقًا حسب الزمان والحاجة، فالترجمة في ذاتها تأويل، حيث يتبع المترجم منهج الوفاء لما يريد النص إيصاله وليس لما يريد المؤلف قوله، فمثلًا في لغة معينة يمكن للنص المترجم أن يكون أشد اكتمالًا في التعبير عن النص الأصلي، أو هذا على الأقل ما يدعيه إيكو من خبرته في مراجعة أعماله المترجمة في اللغات التي يجيدها.

وبما أننا استخدمنا مصطلح الوفاء، فأين تأتي الخيانة؟ وهل ستكون سيئة في الواقع؟

يشجع إيكو على الخيانة الظاهرة لبعض النصوص، مدعيًا أنها وفاء للنص على أية حال، فالمهم هنا خلق نسخة من النظام النصي التي يمكنها أن تخلق لدى القارئ نفس الأحاسيس التي يخلقها النص الأصلي.

اقرأ/ي أيضًا: حوار مع 3 مترجمين.. في ضباب الترجمة ويأسها

فمثلًا حينما تريد القراءة لشاعر عظيم ستبحث بالتأكيد عن شاعر عظيم آخر قام بترجمة أعمال الأول، والسبب أن الفضول يدفعك دائمًا نحو رؤية التحدي الذي عايشه الثاني، ربما إن استطعت قراءة العملين لن تبحث عن التشابه الحرفي بقدر بحثك عن المواجهة القائمة بين الشاعرين في حلبة النصوص منقطعة النظير، أو هذا على الاقل ما يعتقده أمبرتو إيكو.

فإذًا، التفاوض عملية مهمة في فهم الكون وكل الثقافة الواقعة خارج النص، وسيبقى أطراف التفاوض كثرًا نختصرهم بادئًا بالمترجم والمؤلف الحي، أو إن لم يتسن للمترجم التواصل مع المؤلف سينتقل التفاوض بين المترجم والنص الأصلي والمعلومات الموسوعية المحيطة بالثقافة التي قدم منها النص الأصلي، لعبة خطرة.

كيف نعرف أسماء عديدة لشخصية واحدة؟

بالنسبة لفتاة لا تجيد اللغة الفرنسية ولا البرتغالية فإن تعلقي الشديد بأرتور رامبو وفرناندو بيسوا يبدو غير منطقي البتة، فأنا لا أستطيع تخيل رامبو بدون كاظم جهاد، ولا بيسوا بدون إسكندر حبش، يلتحم سامي الدروبي مع دوستويفسكي كما يجيء إمبرتو إيكو برفقة احمد الصمعي. الكثير من الاسماء فرضت نفسها عليّ بشكل ثنائي لا طائل منه.

ماذا سأفعل قبل أن أقرأ لماركيز؟ بالطبع سأتيقن بأن صالح علماني هو من سيتسلم زمام الأمور، إذًا لقف قليلًا وبجدية شديدة لأسأل نفسي ماذا عن ميلان كونديرا؟ إنه وحش بالطبع وأنا أخاف أن أربط اسمه بشخص آخر فأذوب بفعل حامض النرجسية التي ستطلقها أنفاسه. من بودلير من دون رفعت سلام؟ من هو أنغوجي واثينغو بدون سعدي يوسف؟ هل سأتريث قبل أن اقرأ اسم نادر أسامة على اي رواية خيال علمي؟ لا يبدو ذلك واردًا.

ماذا عن بدر شاكر السياب فيما يخص نيرودا او لوركا أو طاغور!

من بودلير من دون رفعت سلام؟ من هو أنغوجي واثينغو بدون سعدي يوسف؟

هذه الثنائيات الغريبة التي ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بالكثير من الأدب الذي أعرفه لا تكاد تنفك تحكي لي قصصًا وتلقي عليّ أشعارًا حتى صار بيني وبينها ألفة وشيء من عشرة غريبة.

اقرأ/ي أيضًا: الترجمة والأدب.. ممارسة تأويلية وإبداعية

هكذا إذًا يملك الشخص الواحد اسمين أو أكثر، بفعل عظيم تقوم به الترجمة التي يدعي البعض استحالتها.

 

هامش:

* عند الشيعة من المسلمين، سمك الجري محرّم أكله، حيث تروي الجدات حكايته مع علي، ابن عم الرسول، حين كان يتوضأ في جدول مياه فأتت إحدى سمكات هذا النوع لترش الماء عليه وتنقض وضوءه. أما علماؤهم فيقولون في تحريمه إنه لا يمتلك قشورًا، وأي سمكة بلا قشر حرام أكلها. في العراق معروف عند المسلمين من السنة والشيعة تحريم هذا النوع من السمك عند الطائفة الشيعية، ويبدو هذا الامر معروف في العراق أكثر من بقية البلدان المسلمة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

لطيفة الزيات تروي قصة بدايات حركة الترجمة في مصر

5 كلمات ألمانية عصيّة على الترجمة