05-مايو-2020

جانب من تظاهرة للاجئين فلسطينيين من سوريا إلى لبنان (أرشيفية/actionpal)

ماذا تبقى للفلسطيني في لبنان؟ وماذا تبقى للبنان لدى الفلسطيني؟ بل ماذا يريد لبنان أن يُحمل الفلسطيني فوق كل الحمولات، مادية ورمزية، التي ألقاها من على أكتاف حكام بيروت وأمراء حروبها، غير البيارتة للمناسبة إن كان يهم، إلى منتصف ظهر الفلسطيني اللاجئ قسريًا بفعل حراب الصهيونية إلى أرض "لبنان الكبير"؟.

يبدو أن الصهيونية بحضورها في المنطقة عبر إسرائيل إنما حققت ما هو أبعد مما اشتهى ثيودور هرتزل وستار زئيف جابوتنسكي، لم تستعمر فلسطين إحلاليًا ولم تحول أهلها إلى هنود حمر فقط، بل عممت الدرس على دول الطوق ومجموعاتها الحاكمة وداعميها من عرب ما وراء الطوق

هذا صنف من التساؤلات الأولية التي لم تبرز مصادفة أو صبيحة الدم الفلسطيني في تل الزعتر أو شاتيلا. إنما في عز تفاقم حقبة كوفيد التاسع عشر، بما فعلته، قالته، ووجهت به السلطات اللبنانية، حكومة حسان دياب رفقة أصحاب نوايا ما بعد بعد حيفا المتحكمين بمسارب مطار رفيق الحريري الدولي، إلى شركة طيران الشرق الأوسط، بأرزتها الشهيرة، من منع إقلال وإجلاء أي فلسطيني ينتوي العودة عبر خطوطها ممن حصل أن وقع لبنان بلد لجوء له وخرج منه بحثًا عن الخبز عندما لم يتوفر له لا أكثر.

اقرأ/ي أيضًا: عنصرية جديدة: اللاجئ الفلسطيني ممنوع من العودة للبنان

إنما تحضر مثل التساؤلات السابقة، وغيرها أكثر، بقسرية باب ضرورة الخطورة المضاعفة التي يمثلها الموقف والبناء عليه في التعاطي عنصريًا مع ملف من مثل ملف اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وفي ظل جائحة كورونا خصوصًا. إذ صدرت السلطات اللبنانية مثل هذا القرار كأن لا مسؤولية لها أساسًا، قانونيًا بدرجة أولى كبلد مضيف، تجاه هؤلاء الذين تقف سدًا منيعًا أمام عودتهم إلى ملجأهم القسري. أو كأن هؤلاء أساسًا خرجوا من لبنان هربًا من الواقع المسترخي معيشيًا وحقوقيًا الذي توفر لهم على مائدة البلد المضيف!.

ما يزيد من الأمر خطورة، ليس القرار بحرفيته، بقدر ما هي السياقات الأوسع له وحوله، ليس أقلها التصفية المستمرة والمتفاقمة للجسم الأساسي المسؤول عن غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين – وكالة أونروا في جسمها الأساسي ومختلف مناطق عملها، بما في ذلك داخل فلسطين المحتلة.

 لا إنكار لبعض من التوقعية أو ما يمكن الاصطلاح عليه بالحتمية التي لا تدفع لاستغراب مثل هذا الأمر، وغيره الكثير. هذا إذا تم استطلاع حالة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، أو أغلب أوجه هذه الحالة على الأقل. إذ لما خطر للجسم المفترض به ومنه تمثيل الصالح العام الفلسطيني وشرعية حقه في تقرير المصير، م.ت.ف، عام  1974  فرض برنامج النقاط العشر "قسريًا"، تمامًا كما هو اللجوء ناتج التهجير القسري مفروض قسريًا على أغلب قطاعات الشعب الفلسطيني، وتقمص القرار الأممي 242 بكل علله وعلاته، لم يصير منذ وقتها مصير القرار 194 مغفلًا فقط، بما يشتمله من عودة وتعويض وجبر للأضرار، بل أيضًا مصير كل من يمكن أن يشتمل على أحقيتهم به ومعاشهم اليومي في أبسط تفاصيله أيضًا، وهم غالبية الشعب الفلسطيني للمناسبة.

يتم الاستقواء على ابن مخيم المية ومية وعين الحلوة، كما تجريمه ووصمه باستمرار، كما تم تقتيل أبناء نهر البارد وما سبقه من مخيمات فلسطينية في لبنان. يتم هذا بإيقاع لا يقل زخمًا عما شهد عليه ابن خان الشيح واليرموك على إثر المقتلة السورية الشاهقة، كل هذا والممثل الشرعي والوحيد، وفق سرديته، أي منظمة التحرير ومجمل عتادها، بما فيه جهاز السلطة الفلسطينية في بعض أجزاء الضفة الغربية، في موقف المراقب القلق، أسوة بسكرتير الأمم المتحدة السابق، بان كي مون، كثير القلق.

وعليه يكون التساؤل عن ممكنات حل الدولتين في الميدان، لا فلسطينيًا فقط، بل في مجمل أشتات الشعب الفلسطيني. أي ما الممكنات وغير الممكنات التي جرها وسيجرها حديث الدولتين غير الممكن أساسًا بقوة الوضع القائم، والذي حتى لو توافقت عليه الأطراف الفاعلة أجمعها، أبرزها جيش الاحتلال الإسرائيلي، فأي شروطٍ تتوفر لدولتين تستطيعان الحياة في فلسطين التي لم تعرف النشوء المعتاد للدولة يومًا لا مصادرها وجغرافيتها، ولا حدودها المشتقة من آخر تقسيم استعماري عقب الحرب العالمية الأولى، وهو ذات التقسيم الذي أفصى إلى "لبنان الكبير" للمناسبة. كذلك، وبما لا يقل أهمية، أي مصير لأكثر من ثلثي الشعب الفلسطيني، ومنهم من تمنع عودتهم إلى لبنان اليوم؟!

صناعة الخوف الديمغرافي، وما يستتبعه من قلق مفتعل وغير مفتعل على الوجود بكليته، صنعة أتقنتها الصهيونية في فلسطين واستوردها كثير من العرب لاستهداف الفلسطينيين 

كما حضرت وتحضر الديمغرافيا باستمرار في مجمل الخطاب السياسي المتعلق بفلسطين، سواءً خطاب الفلسطينين أو أي خطابٍ آخر بما فيه الخطاب الصهيوني. وكما تأخذ الديمغرافيا أبعادًا أكثر خطورةً عندما تتلاحم مع الاستسهال الشعبوي لخلط الديمغرافيا واللاهوت وعلم المستقبل، حققت هذه الديمغرافيا حضورها في مرمى الأقل من نصف مليون لاجئة ولاجئ من فلسطين ونسل من تناسلوا منها إلى لبنان. ليتم تطعيم ومفاقمة حالة صناعة الخوف الديمغرافي، وما يستتبعه من قلق على الوجود بكليته، من وقت كميل شمعون وصولًا إلى عتبة العميد الركن وليد عون، رأس أمن المطار في حقبة الجنرال ميشال عون وجوقة داعميه.

اقرأ/ي أيضًا: مركزية في اللامركزية.. تاريخ لبنان وحاضر الانتفاضة

في مكمن، أو أحد مكامن خطورة التركيز على الديمغرافيا بهذا النحو، بما أن المسألة لا تدور حول احتياجات عناصر هذه الديمغرافيا ولا حقوقهم، بل تتم شيطنتهم والتحذير من "الغول" الذي سيشكله هؤلاء على مستقبل  لبنان، تتشابه الحالة تمامًا مع مشروع إسرائيل في استنساخ أفريقيا الاستعمارية في فلسطين حتى ديمغرافيًا، وهي، أي إسرائيل تمنع عودة اللاجئين الفلسطينيين، بما فيهم من لبنان، تمامًا كما وقف لبنان اليوم مانعًا ممانعًا لعودة اللاجئين إليه الباحثين عن الخبز خارجه.

لذلك، أو بعض منه، يبدو أن الصهيونية بحضورها في المنطقة عبر إسرائيل إنما حققت ما هو أبعد مما اشتهى ثيودور هرتزل وستار زئيف جابوتنسكي، لم تستعمر فلسطين إحلاليًا ولم تحول أهلها إلى هنود حمر فقط، بل عممت الدرس على دول الطوق ومجموعاتها الحاكمة وداعميها من عرب ما وراء الطوق أيضًا. لبنان يستنسخ ما لها في شؤون الديمغرافيا، وسوريا الأسد لا توفر درس "أملاك الغائبين"، ناهيك عن قسرية كل شيء، ولا تتوقف الحالة عند تجربة سعد حداد وأنطوان لحد وبشير الجميل وصغار الكسبة على مائدة كابينت حرب إسرائيل المفتوحة، بل تحضر المنظومة العربية الرسمية بمعظمها إلى مدرج محاضرات التنكيل بالفلسطيني ونفيه، بمجمل معان النفي.

المسألة بهذه البساطة، الصهيونية ترى فلسطين بلا فلسطينيين/عرب، وإن رأتهم فهي لها منظورها للعرب الأخيار المطبعين المتحالفين معها للتستر على عورات مشاريعهم الفاشية أيضًا. والعرب الرسميون، أو أغلبهم، يرون فلسطين بلا فلسطينيين أيضًا، مادة إعلامية يسهل استحضارها أينما اقتضت ضرورات انتهاك المحظورات والحج إلى "كامبينسكي" تل أبيب و"وكنغ دافيد" القدس.

تأخذ الديمغرافيا أبعادًا أكثر خطورةً عندما تتلاحم مع الاستسهال الشعبوي لخلط الديمغرافيا واللاهوت وعلم المستقبل

لكن في لبنان قد تكون الإشارات بطعم مكثف أكثر من غيره بعض الشيء، سواء من ناحية أن لا جديد في مثل هذه التنكيلات بالفلسطينيين، أو لناحية أن مزارع شبعا والغجر محتلة حتى اليوم، تمامًا كما هي سماء بيروت ومياه صيدا وبترولهما.

معادلة الوطني/الموطني والقومي والطبقي رفقة الحقوقي ومعه الأخلاقي فيما تواجهه مخيمات لبنان ومن يبتغون العودة إليها والعودة منها كذلك متشابكة بكل ما سبق. لكن بالنسبة للاجئين في لبنان، فلسطينيين وغير فلسطينيين، سوريين خاصة، أسئلة كبيرة حاضرة وستبقى، لا برسم من يعاديهم جهارًا من قوى المحاصصة الفاشية اللبنانية أو من يوظف أوجاعهم وهو شريك في صناعتها، الفاشي أيضًا، بل برسم القوى الاجتماعية التي ترفض "حكم المصرف" وحكم أمراء الحرب وتسعى إلى تقويضه أو تعلن ذلك أقله، التي عليها بلا بد أن تناضل لأجل الإنسان بكليته في جغرافيتها، وغير جغرافيتها عندما يتاح، وإلا فمراوحة مكان النشاط المطلبي، لا الحركة الثورية سيكون من النصيب المقيم لأي "حراك" لبناني مضارع ومرتقب. أما الفلسطيني في لبنان، وغير لبنان، فأسئلته قائمة ومتراكمة ومتفاقمة في ظل نكبته/نكباته القائمة والمضارعة باستمرار.

 

اقرأ/ي أيضًا:

موجات تقديس الأدوات.. هنا تتوه الثورات

استراحة على شرفة من لا عيد لهما