تسرّب إلى نفسي شعور خانق في زيارتي الأخيرة لمدينة مالمو السويدية، بالأخص أثناء تواجدي في مبنى الوقف الإسلامي، حيث أقيم عزاء الدكتور يوسف سلامة، فلسطيني الجنسية وسوري القلب والروح، الذي غادر عالمنا قبل أيام عديدة مخلفًا وراءه الكثير من الحزن والحسرة على غيابه.
في مجلس العزاء أمكنني ببساطة رصد التوتر الذي كان سائدًا، فقد اجتمع بشر من شتى المشارب، إسلاميون وعلمانيون، فلسطينيون وسوريون وعراقيون، نساء في طابق ورجال في طابق آخر، ورغم كل اختلافاتهم العقائدية والسياسية التي كانت ظاهرة للعين المهتمة، فقد جمعهم على قلب واحد ذلك الفقدان الجلل.
كان الراحل الدكتور يوسف سلامة شخصًا تبكي له البواكي كما يقال، وله أياد بيضاء ناصعة على الثقافة والتنوير، ويُشهد له بطيب الذكر وحسن السيرة، ما جعل من رحيله المباغت مناسبة عامة حزينة توافد بسببها الكثير من المعزين من كل حدب وصوب في الشتات.
اتخذ العزاء بعدًا رمزيًا لأن الراحل الكبير جهد خلال حياته كلها في سبيل تعزيز دور الثقافة للنهوض من قوقعة الانغلاق الفكري والتردي الذي نعيشه، فكان فكره وسلوكه بمثابة بوصلة يهتدى بها، وكان بنفسه محط إجماع وتوافق في محيط صاخب بالاختلافات والنزاعات والاشتباكات الفكرية.
طغا أيضًا على المشهد العام خلال تلك الرحلة القصيرة حزن آخر، تعلق بما يجري من أحداث في فلسطين.
كان جليًا للناظر كيف أن نتائج استمرار الحرب القاسية التي أجبر الفلسطينيون على تحملها في الداخل قد بدأت بالانعكاس على الخارج، محملةً بغضب محق في أحيان كثيرة سببه تخاذل الدول العربية عن نصرة غزة، وانحياز الدول الكبرى ظلما لجهة الكيان الصهيوني.
هل يخدم قضايا الشعوب العربية الأخرى ترك فلسطين والفلسطينيين لمصيرهم المجهول؟ والتنصل من عبء الدفاع عن القضية الفلسطينية بحجة الاختلاف في وجهات النظر؟
المظاهرات لم تتوقف، والنشاط المرافق لها أيضًا لا يتوقف.
آراء كثيرة سمعتها أدانت الحرب وأسبابها، وحملت الأوزار لحركة "حماس"، وآراء أخرى رفضت كل هذا المنطق وركزت على مسؤولية العدو عن كل ما جرى سابقًا ويجري حاليًا.
في ظل ذلك كان هنالك صراع خفي يسري، فالبعض كان غاضبًا عن تراخي جاليات بعينها عن نصرة القضية الفلسطينية كما يجب، وحجتهم في ذلك عدم مشاركة تلك الجاليات بشكل مكثف في المظاهرات. أما البعض الآخر، فقد نفى ذلك نفيًا قاطعًا، وأكدوا على أنه لا يمكن لعربي مهما كانت جنسيته أن يناصر الكيان الصهيوني، لكن المصيبة الكبرى موزعة حاليًا على كل الشعوب، وكل دولة عربية محيطة فرض عليها ما لا يطاق من قهر وعذابات خلال السنوات السابقة، فمن حق كل شعب إذا أن يناصر فلسطين كما يرى شريطة أن يكون قلبه مخلصًا لها ورافضًا لأي تطبيع أو علاقة مع الكيان.
النقاشات كانت كثيرة، واختلاف وجهات النظر كان مبررًا لأن السياسة لها مقتضياتها، وكل طرف سياسي يحمل حججه تحت إبطه.
غير أن السؤال الذي ظل يلح باستمرار، ماذا يفعل الفلسطيني المحاصر في غزة بكل هذا الكلام الذي لا يجدي نفعًا، وهل تخدم قضيته مثل هذه الانقسامات وهذا الغضب؟ وهل يخدم قضايا الشعوب العربية الأخرى ترك فلسطين والفلسطينيين لمصيرهم المجهول؟ والتنصل من عبء الدفاع عن القضية الفلسطينية بحجة الاختلاف في وجهات النظر؟
نحن جميعًا نعلم بأن الحروب تفضي للفوضى، وتفرز فيما تفرزه ضعفًا في نفوس بعض البشر، وانخفاضًا في المنسوب الأخلاقي بسبب التعب والفقر والخوف واليأس وانعدام الفرص بالنجاة وقلة الحيلة، وتزداد المخاطر مع استمرار الحرب، وتتفاقم المشاكل، وكل ذلك لا يمكن معالجته بالشعارات الطنانة والدعاء المرافق والأغاني الحماسية، ولا يمكن إيقاف ذلك الألم بالابتهالات الدينية الرمضانية والأدعية فقط، ما لم تتخذ العدة والأسباب.
في زمن الحرب لا يمكن لنا أن نحاكم خطاب الضحايا، ومن القسوة أن نطالبهم بتبني مواقف عقلانية تناسب رؤانا الشخصية وتطلعاتنا. فالرازح تحت القصف له تقييماته المختلفة تمامًا، وأولوياته لا يمكن أن تكون محل نقاش، عشنا ذلك سابقًا في سوريا وندركه جيدًا.
غير أن ذلك يصبح ضرورة عندما يتعلق الأمر بمن تهمه القضية ويعيش في عالم يوفر له إمكانية التفكير العقلاني، سيما أن الصدمة الكبرى قد فات وقتها منذ شهور (نتكلم عن بداية الحرب).
نعيش في زمن أحوج ما نكون فيه للتقارب العربي، جاليات في الخارج وجماعات في الداخل، وأن نجهد أنفسنا كي لا تتسع الهوة بين الشعوب التي ترتبط حكمًا مصائرها ببعضها البعض.
ذلك ما يتمناه الكيان الصهيوني وما يسعى له جاهدًا.
لا نمتلك أيضًا رفاهية الخوض في نقاشات بيزنطية لا تنفع أحدًا ولا تزيد الطين إلا بلة، كتلك النقاشات التي تتعلق بسؤال مركزية القضية الفلسطينية من عدم مركزيتها في الوقت الحالي!
أي قضية هي بالضرورة قضية مركزية بالنسبة لصاحبها المعني بها، وإلا لماذا يجب أن تدعى بالقضية؟
نحن كسوريين فلسطينيون بالهوى والروح والعاطفة، ونعلم بأن فلسطينيي سوريا سوريون بالهوى والروح والقلب، المركزية هنا لا تتعلق بقضية شعبين في وطنين، بل تتعلق بقضية "شعب واحد" سواء علم المختلفون ذلك أم لم يعلموه، وما هذا الشرخ الحالي الذي نراه على وسائل التواصل الاجتماعي إلا غمامة صيف يجب لزامًا أن تكون عابرة.