13-مارس-2024
طفل في خيمة في غزة (epaimages)

(epaimages) طفل تحت فوانيس رمضان

في بداية شهر رمضان المبارك، قامت العديد من وسائل الإعلام العربية التقليدية والحديثة بتصوير كيفية استقبال أهل غزة له، وكان هناك تركيز من قبل بعض هذه الوسائل على مظاهر البهجة والزينة التي اصطنعها النازحون في الخيام في محاولة منهم لمقاومة الحرب ومآسيها المستمرة.

كانت هناك عدة تعقيبات وردت من نشطاء غزيين على كيفية تغطية هذه الوسائل لمظاهر البهجة في غزة، وقد أجمع هؤلاء النشطاء بأنّ هذه التغطية تحجب أوجاع الناس وتحوّلها إلى رومانسيات مبتذلة، فحياة الخيمة –كما عقّب أحدهم- قاهرة وقاسية جدًا، وإنّ ظهور ابتسامات أهل غزة وبهجتهم في الخيام، أو بين ركام بيوتهم، رغمَ حقيقة الإبادة التي يتعرضون لها ليس سوى وسيلة من وسائل المقاومة المشروعة لما يمرون به.

ليست هذه المرة الأولى التي تقوم بها وسائل إعلام عربية بابتذال المادة البصرية المقدمة عن أهل غزة، فمنذ بداية الحرب الإسرائيلية حرصت بعض تلكَ الوسائل على تقديم مقابلات إعلامية مع بعض الأهالي الذين يخرجون ليعبّروا عن صمودهم وإكبارهم لكلّ إنجازات المقاومة، ورغمَ وجود هذه الفئة من الناس في غزة، إلا أنّ قصر الحديث عنها واستعراض أقوالها في بعض وسائل الإعلام العربية يأتي ليغطي على فئة أخرى تَصرّ على رفض كلّ صور أسطرة الصمود، وتريد أن تخرج لتعبّر عن حقّها في استعادة الحياة الطبيعية بعيدًا عن الحرب وويلاتها.

لا يُمكن فهم هذا الابتذال الإعلامي في عرض صورة غزة دون التأمّل في خارطة الإعلام العربي المعاصر الذي قام بتجديد أدواته التواصلية، وزاد من نسبة اعتماده على التكنولوجيا الحديثة، حيثُ كثّف من استخدام هذه الأخيرة، واستعان بها للانتقال بالخطاب الإعلامي من خطاب يقوم على ثقافة الكلمة بما فيها من إمتاع وإقناع وتأمل إلى خطاب يقوم على ثقافة الصورة بما فيها من إثارة وإدهاش وتدفق.

يجب علينا أن نعمل كي نبرز الحقيقة الكاملة للوضع في غزة، بدلاً من التركيز فقط على صورة مثالية تُظهر الصمود والمقاومة

 

إنّ تركيز الإعلام العربي الجديد على المادة البصرية والنظام البصري، جعل الصورة تتقدّم باعتبارها نظام سلطة يفرض على عقل البشر ما يراه ولا يسمح له برؤية غيره، فالصورة التي تقدمها لنا وسائل الإعلام توحي لنا بصدقيتها الدائمة، فما أن نراها حتى تمارس علينا جبروتها التي تصوّر لنا عبره أنّها حقيقة مطلقة، دون أن يُتاح المجال لعقلنا في التفكير في مختبرات إعدادها وتصنيعها، التي تُفصّل لنا –في كثير الأحيان- صورًا على مقاسها ومقاس رؤيتها وانحيازاتها. 

إنّ تقديم المؤسسات الإعلامية للصورة يقوم في كثير من الأحيان على سياسة العزل والانتقاء، فهي تقدّم لنا الصور التي تتماشى مع رؤيتها وأيديولوجيتها ومقارباتها للقضايا، بعيدًا عن حقيقة هذه القضايا، وهي تُظهر لنا من خلال الصورة بعض الحقيقة التي تخدم انحيازاتها، بعيدًا عن كلّ موضوعية.

استحالت الصورة في الوقت الحالي إلى أداة اتصالية مهمة، بحيث لم يعد لها وزنها فقط، بل أصبحت لها مقدرة كبيرة على بلورة الخطاب الإعلامي برمته وتحديد وجهته، وما يزيد من حضورها وسيطرتها هو وجودها في طبيعتها الرمزية، التي تجعلنا نميل إلى الإعلاء من شأنها والنظر إليها على أنّها تتفوق على الخصائص الدلالية للغة، ولعلّ ذلك ما يدفعنا إلى القول بأنّ صورة واحدة تساوي ألف كلمة، وهو ما يقودنا نحو النظر إلى تلكَ الصورة باعتبارها تجسيد مطلق للحقيقة.

يُمكن أخذ الدعاوى والتعقيبات التي أطلقها الناشطون من غزة بضرورة عدم أسطرة صمودهم والنظر إليه وإلى وجعهم بعين الواقعية والموضوعية؛ يُمكن أخذها باعتبارها دعوى مبطنة إلى وسائل الإعلام العربية والصحفيين العرب بإيقاف سياسة العزل والانتقاء في تقديم صورة غزة إلى العالم؛ بانتقاء وجه صمودها وشموخها وعزتها وإبائها واختزالها به، دون الالتفات إلى وجهها الآخر، ذلك الذي ليس فيه سوى الوجع والألم والقهر والمعاناة.