01-ديسمبر-2022
الشاعر الراحل عبد العزيز المقالح

الشاعر الراحل عبد العزيز المقالح

لعلّ الموت عندما يصيبُ العظماء نحسُّ بألَميْن وتفاؤل واحد؛ فالألَمَان هما الحسْرة والحزن على غياب عقلٍ بحجم السّماء، والتفاؤل أنّ هذا العقل سماءٌ معطاءةٌ تعطيك كلّما نظرت إليها بروح الفكرة والبحث. والشاعر الراحل عبد العزيز المقالح كان هذا العقل بحجم تلك السّماء في غزارة أشعاره، ورصانة علمه، وحُبْك فلسفته.

ولد المقالح في إب، وعاش فترة في صنعاء ونما صغيرا في حجة، تلك المدن اليمنية التي شكلت فرشًا من الذاكرة التي لا تغيب، فروح الثورة كانت حاضرة وإن وئدت عام 1948، فكان نتاجها سجون ومعتقلات وكان أحد هؤلاء السّجناء والد المقالح، وهنا توّلدت لديه روحان: روح بألم الحاضر، وروحٌ بأمل التغيير. بدأ ابن الشاطئ يكتب أشعارًا تلامس فيها أفكار الإنسان الحالم الخائف، فابن الشاطئ هو الاسم الذي اختاره لنفسه عندما بدأ في كتابة الشّعر سرعان ما انتقل إلى الكتابة في الصحف باسمه الحقيقي في جريدة النصر التي تصدر من مدينة تعز.

حاول عبد العزيز المقالح في مشواره الشعريّ أن يكوّن الوطن تكوينًا حداثيًّا في أسفارٍ تُبعِدُ رتابة الواقع، وملل البحثِ عن روح وطن جديد

 

جاءت ثورة عام 1962 لتشكل محور تغيير في حياة المقالح وغيره من مفكّري اليمن، وبعد الثّورة نمت أشعاره، وترعرعت أفكاره، ليصدرَ مجموعة من الدواوين أهمّها: لا بدّ من صنعاء، مأرب يتكلّم، رسائل إلى سيف بن ذي يزن، هوامش يمانية على تغريبة ابن زُريْق البغداديّ، عودة وضّاح اليمن. كذلك أنهى دراسة الدكتوراه في مصر معلنا عن مرحلة فكريّة حافلة بالعمل الأكاديمي والكتابة الفكريّة الإبداعيّة.

التقدميّة كانت حاضرة في تكوين صُلْب المعرفة للمثقف العربيّ، وذلك في ظل المثاقفة مع مصادرها الغربيّة، وهذا ما جعل المقالح وغيره من المثقفين يبحث عن التغيير في المجتمعات على المستوى السياسيّ والاقتصادي؛ فكانت التقدميّة الاشتراكية حاضرة في روح كتابات المقالح الفكرية، وكأنّ ذلك عطفًا على حياة عاشها في نقص روح السياسة والحرية، وتغليب روح الاستبداد. كذلك نجد التقدميّة في شعره تتشكل في صورة العربيّ المقهور، وهذا ما نجده في دواوين: الكتابة بسيف الثأر علي ابن الفضل، الخروج من دوائر الساعة السليمانية، وراق الجسد العائد من الموت، أبجديّة الروح، ففي هذه الدواوين يواري سوءات المجتمع ويعطف على حلم التغيير باحثًا عن كيان عربيّ يحمل همّ الفرد والجماعة. كذلك لم تغب اليمن بوصفها نموذجًا لحال الأمة العربيّة ينقل ويلاتها، ويتحسّر على دائها.

حاول المقالح في مشواره الشعريّ أن يكوّن الوطن تكوينًا حداثيًّا في أسفارٍ تُبعِدُ رتابة الواقع، وملل البحثِ عن روح وطن جديد، فجاءت دواوينه في الألفية الجديدة: كتاب صنعاء، كتاب القرية، كتاب الأصدقاء، كتاب بلقيس وقصائد لمياه الأحزان، كتب المدن. لتحكي سيرة وطن بقدر ما تحكي سيرة حياة، تمهّد لحاضر أمّة عربيّة لم تأنف إلّا التستر وراء الجهل، أو أن يتستّر الجهل بها.

إنّ الحداثة الشعريّة في بنائها الفنيّ والعاطفيّ جعلت من أخدودِ معرفة المقالح منبتًا لفلسفة عربيّة ترى الإنسانيّة وكأنّها حالَة إدراكيّة واحدة، وهنا نتحدث عن عشرات الدّراسات في الشّعر العربيّ الحديث، والقصيدة اليمنية الحديثة، إذ شكّلت هذه الدراسات حالة فلسفيّة عامة تُقرَأ قراءة إنسانيّة بروح سماويّة، نذكُر من هذه الدّراسات: الأبعاد الموضوعيّة والفنيّة لحركة الشّعر المعاصر في اليمن، أزمة القصيدة الجديدة، وغيرها من الدراسات التي كانت رافدة لحديقة النقد العربيّ. وإن شَجَانَا الحديث فيمكن أن نتذاكر كتاب المقالح "مرايا النخل والصحراء"، ذلك الكتاب الذي درس فيه المقالح سبعة وأربعين شاعرًا من الخليج العربي والجزيرة وفق دراسة فنيّة بيّنت مدى اطّلاع المقالح على التجارب الشعريّة، ومدى اعتنائه بالحالة الفكرية، كما بيّنت أيضًا أن المقالح يقرأ ليتفكّر، ويتفكّر ليُغيّر مآلات النفس وكينونة الثقافة.

وأخيرًا ومن ديوان الشّاعر "بالقرب من حدائق طاغور"،  يطالعنا المقالح في حكمة العارفين وكأنّه ذلك العُيوق إذا طلع طلعت نجوم الثريا، يرشدنا نحو حداثة مؤنِسة تقينا جمودَ السّنين:

"ستّونَ ربيعًا

وأنا أبحثُ في دُنيا الشّعر

عن الشّعر

وعن نصٍّ يُشبهني

نصٍّ مثلي

يضحكُ، يبكي

يخرجُ من ماءِ سليْقتِهِ

مختلفًا

لا يشبهُ حينَ يَرِنُّ المعنى

نصًّا آخر!".