05-أكتوبر-2020

الكاتبة والناشطة بشرى المقطري

ألترا صوت – فريق التحرير

يخصّص "ألترا صوت" هذه المساحة الأسبوعيّة، كلَّ إثنين، للعلاقة الشخصية مع الكتب والقراءة، لكونها تمضي بصاحبها إلى تشكيل تاريخٍ سريّ وسيرة رديفة، توازي في تأثيرها تجارب الحياة أو تتفوّق عليها. كتّاب وصحافيون وفنّانون يتناوبون في الحديث عن عالمٍ شديد الحميميّة، أبجديتُهُ الورق، ولغته الخيال.


بشرى المقطري كاتبة وصحافية وروائيّة وناشطة سياسية من اليمن، حائزة على العديد من الجوائز المحلّية والعالمية، آخرها جائزة "يوهان فيليب لام" الألمانيّة لحريّة الفكر والصحافة، صدرت لها رواية بعنوان "خلف الشمس (2012)، وكتاب "جنوب اليمن في حكم اليسار: شهادة شخصيّة" (2015) وهو عبارة عن حوار مطوّل مع المؤرّخ والمفكّر اللبنانيّ فواز طرابلسي، وكتاب "ماذا تركت وراءك؟ أصوات من بلاد الحرب المنسيّة" (2018).


  • ما الذي جاء بكِ إلى عالم الكتب؟

تحدد الطفولة مسار حياتنا وقد ترسم أحيانًا خياراتنا في الحياة، وأنا قادني إلى عالم الكتب شغفي بالحكايات الخرافية التي تقصها أمي، وريقة الحنا، وحكاية الجرجوف، والدِجرة، قِعَادة زاج وقِعَادة زجاج، حكمة المخيال الريفي الذي يسكن عقل الإنسان اليمني، حبي للحكايات وشغفي بالكتابة، دفعني للقراءة، كانت مكتبة خالي في القرية، زادًا معرفيًا بالنسبة لي في سنوات الطفولة، رغم أن عناوينها فقيرة، كانت الكتب مخزنة في كراتين داخل كوة داخل الجدار، وكان جدي لأمي يحرسها بعينيه، ويمنع المتطفلين من أحفاده الاقتراب منها، لكني كنت أغامر وأتسلق الجدار، أتذكر قرائتي لرواية "الأم" لمكسيم غوركي، على ضوء فانوس الجاز في دار جدي، الذي ينتصب وحيدًا أعلى الجبل، الظلام والضباب الذي يحيط بالغرفة، ضوء ذُبالة الفانوس المتأرجحة التي تنعكس على صفحات الرواية، كل ذلك كسى الكلمات بصبغة سحرية، لا تزال عالقة في رأسي، قرأت كل ما وجدته في مكتبة خالي حينها، التي يغلب عليها الأدب الروسي، وعندما انتقلنا إلى مدينة تعز، كنت أقرأ كل ما يجلبه أبي، من صحف وكتب قديمة من أصدقائه، بالطبع لم يكن محيطي الأسري داعمًا للقراءة، فأنا من أسرة بسيطة متوسطة الحال من الطبقة المتوسطة، أبي عامل بناء، وأمي أمية، لذلك كان اقتناء الكتب رفاهية صعبة التحقق في سنوات طفولتي، لكن أبي الذي يجيد القراءة، أهداني أول كتاب حصلت عليه في حياتي، كتاب "التيجان في ملوك حمير"، للإخباري اليمني وهب بن منبه، لا زلت أتذكر حتى الآن رائحة أوراقه القديمة المصفرة، وملمس غلافه الأملس، كان ذلك أول كتاب يخصني.

في سنوات المدرسة، توثقت علاقتي بالقراءة، وبدأت أشتري الكتب من مصروفي المدرسة، وكان ذلك بفضل أستاذ اللغة العربية، مدرس مادة التعبير الذي نمى شغفي بالقراءة، كنت حينها في الصف الثالث الاعدادي، وأحب مادة "التعبير"، وهي كتابة حرة ساهمت كثيرًا في منحي ثقة خارج حدود أسرتي، كان مدرس اللغة العربية، عراقي الجنسية، مثقف موسوعي، أتذكره وهو يقطع قاعة الدرس مرددًا أبيات من شعر المتنبي، كانت عيناه تتألقان بحكمة من خبر الحياة جيدًا، كان يشرح لنا مناسبة القصيدة، وجمالياتها، أحيانًا كان يجلس في كرسيه منزويًا يقرأ في كتاب جديد، بينما يمنحنا حرية اختيار موضوع الكتابة، كنتُ الطالبة المفضلة بالنسبة له، يحتفي بكل كل ما أكتبه، ويشيد به أمام مديرة المدرسة، وكان يقيم مسابقات للقراءة بين الطالبات، يقترح اسم كتاب ويطلب منا قراءته، أحيانًا نجده في كتب المدرسة، وأحيانًا يجلبه من مكتبته الخاصة، روايات غوغول "المعطف"، و"الأنفس الميتة"، أتذكر الحزن الذي خلع قلبي حين قرأت رواية "الأنفس الميتة"، قهر الفقراء في روسيا القرن التاسع عشر وجشع الاقطاعيين، لكني أحببت "كليلة ودمنة" لابن المقفع، ورواية "أليس في بلد العجائب" للويس كارول، وحزنت لعبرات المنفلوطي، وكتب أخرى كان يقرضها لي الأستاذ، ولم أجد في مكتبة المدرسة، ما وجدته في مكتبة أستاذي الذي أتمنى له الصحة والسلامة أينما كان.

لا يمكن أن أنسى مكتبة "الوعي الثوري" في مدينة تعز كمكتبة نوعية ساهمت في تشكيل وعيي ووعي أبناء جيلي، وانفتاحي على قراءات جديدة، أتذكرني وأنا أقطع شارع دِيلوكس وشارع جمال، حتى شارع 26 سبتمبر حيث تقع مكتبة الوعي الثوري، هناك ستجد في الرفوف المتربة كتب قديمة، سياسية وتاريخية، روايات عالمية بطبعات قديمة، وستجد أيضًا كل جديد، بما في ذلك الكتب الممنوعة من النظام، وإذ لم أجد عنوان الكتاب، كان صاحب المكتبة يوفره بعد أيام. على امتداد الطريق، هناك أيضًا أكشاك بيع الصحف، والتي تخزن كتب غير معروضة، أتذكر عصام، الشاب العشريني الأسمر، بائع الصحف في كشك 26 سبتمبر، القارئ الذي يحفظ عناوين الكتب الجديدة، ويحتفظ بها من أجلي، أو يجلبها من باعة الكتب القديمة.

تكاثرت الكتب في غرفتي الصغيرة، كانت محشورة في كراتين سدت واجهة الغرفة، كانت أمنيتي شراء مكتبة، لكن كان ذلك صعب بالنسبة لأوضاعنا المادية، ثم فاجأني أبي بأن اتفق مع أحد أصدقائه النجارين، بصناعة مكتب كبيرة بالتقسيط، كان ذلك حدثًا سعيدًا في تاريخ العائلة.

  • ما هو الكتاب، أو الكتب، الأكثر تأثيرًا في حياتكِ؟

كل كتاب جيد بالطبع يؤثر في تكوينك الفكري والوجداني والابداعي، يمنحك مفاتيح لسبر عوالم مدهشة، أماكن لم تزرها، وعصور لم تعشها، واختبار عيش حياة غير حياتك، إغنائك بتجربة الآخرين، أبطالك السريين، أيضًا يؤثر مزاجك النفسي حين قراءتها، محيطك الصغير، الزمن والمكان ووضعك الجسدي، تلك التفاصيل الصغيرة تبقى عالقة في ذاكرتك حين تسترجع علاقتك بالكتب التي أثرت فيك. هناك كتب وصمتني كما يقال، حفرت عميقًا في داخلي، كتب كثيرة لا أستطيع حصرها، تحضرني: "الإلياذة" لهوميروس، ربما لارتباطها بصوت محاضر مادة تاريخ اليونان، وكيف كانت "الكلمات المجنحة" تحلق عابرة الزمن ومدرج كلية الآداب وقاعة الثلايا، وصفه لصراع آلهة "الأولمب" على مصير البشر الفانيين، وكيف أنها هي أيضًا لا تقل بؤسًا عنا، ورغم أني أعدت قراءة الإلياذة أكثر من مرة، لكن سحرها وعذوبتها لا يزال يسحرني، "البحث عن الزمن الضائع" لمارسيل بروست، وكلما أعدت قراءة الرواية الضخمة، اكتشفت فرادتها، متعة اللغة الدافئة، والسرد البديع، "جيوب مثقلة بالحجارة" لفرجينيا وولف، "رسائل من تحت الأرض" لدستويفسكي، إذ ليس هناك من كاتب فهم النفس البشرية، كدستويفسكي، رأس المال لكارل ماركس، اللاطمأنينة لبيسوا، والمسخ لكافكا، "الجميلات النائمات" لياسوناري كواباتا، "خريف البطريرك" لماركيز، "تاريخ الجنسانية" و"تاريخ الجنون" للمفكر ميشيل فوكو، "قصة الحضارة" للمؤرخ ويل ديورانت إذ تمنحك فهمًا عميقًا لصيرورة نشوء الحضارات الانسانية وسقوطها، وإنجازاتها، "شخصية مصر- دراسة في عبقرية المكان" لجمال حمدان، المؤرخ والجغرافي والفيلسوف والمثقف الموسوعي، الذي يمثل حالة إبداعية وبحثية عربية فارقة، رواية "الأشياء تتداعى"، لتشنوا آتشيبي، "العمى" لساراماغو، كتاب "آيخمان في القدس: تفاهة الشر" لحنة أرندت، ثلاثية المؤرخ إريك هوبز باوم: عصر الثورات، عصر رأس المال، عصر التطرفات، "الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية" لإدواردو غاليانو، "اليمن الجمهوري" للشاعر اليمني الكبير عبدالله البردوني، "عالم الأمس" لشتيفان تسفايغ، "تاريخ موجز للزمن" للمفكر ستيفن هوكينغ. 

  • من هو كاتبكِ المفضل، ولماذا أصبح كذلك؟

مع مرور الزمن تتغير تفضيلاتك، إذ تختلف ذائقتك القرائية في مرحلة عمرية، ففي سنوات الشباب الأولى قد تكون تفضيلاتك مرتبطة بذائقة أصدقائك وأبناء جيلك، ففي مرحلة سابقة أتذكر شغفي بكتابة ميلان كونديرا، وكيف كنا نقتبس مقولات من روايته "كائن لا تحتمل خفته" و"الحياة في مكان آخر"، كان ذلك أشبه بتقليعة عند جيلنا، ثم مع الوقت تنضج اختيارتك، إذ إن الزمن هو اختبار حقيقي للذائقة، لكن هناك كتاب كبار، لا يمكنك استبعادهم من قائمتك الشخصية، يبقون معك في رحلة حياتك في هذا العالم، وقد تعود لقراءتهم من حين لآخر، حتى وإن كانوا كتّابًا تأسيسيين أو الأباء الكبار للروائين والكتاب والقراء عمومًا، كدوستويفسكي ومارسيل بروست وكافكا وألبير كامو، لكني أنحاز لعوالم ساراماغو، تدهشني لغته وتقنيته الكتابية، عمق نظرته الفلسفية للحياة ومجرياتها، سحرية لغة ماركيز، الحكّاء الكبير، أصاله كاوباتا، فرادة كويتزي، وأيضًا كتاب آخرين كخوسيه مياس، غونتر غراس، إمبيرتو إيكو، كاميلو خوسيه ثيلا، إمره كريتس، ميشيل فوكو، ماكس فيبر، أغوتا كريستوف، إريك هوبزباوم، حنة أرندت، ألبرتو ما نغويل، دوريس ليسنغ، إدواردو غاليانو، ربيع جابر، والروائي الصيني مو يان.

  • هل تكتبين ملاحظات أو ملخصات لما تقرئينه عادة؟ 

في كل الحالات، نعم، لن يحب أحد أن يقرأ بعدي، هي قراءة عميقة يحددها نوع الكتاب، فحين أقرأ كتب تخصصية في التاريخ أو كتب فلسفية، أكتب هوامش في الكتاب، أو اقترحات للقراءة لفهم ما ذكره الكاتب، كإشارته لمرجع ما، أو عند كتابة أبحات أو دراسات، أنقل بعض المعلومات التي تفيدني في البحث، وأحيانًا لمشروع كتاب مستقبلي، وإذا أعجبتني جملة شاعرية في رواية ما أنقلها في الدفتر، لأعيد قراءتها بين وقت وآخر، وفي مكتبتي، وعلى امتداد السنوات، راكمت دفاتر كثيرة تحتل درجين في المكتب، أحيانًا أعود لقراءتها.

  •  هل تغيّرت علاقتك مع الكتب بعد دخول الكتاب الإلكتروني؟

حتى الآن، لم أستطع التكيف مع الكتاب الإلكتروني، لم أتأقلم معه إلا في السنوات الأخيرة لندرة دخول الكتب إلى اليمن بسبب الحرب، لذلك كانت الكتب الإلكترونية الخيار المتاح بالنسبة لي، ومع سهولة الوصول لعناوين جديدة، بما في ذلك الكتب النادرة، فإنها تبقى مُهددة بالنسبة لي، إذ إن خطأ ما قد يزيلها بكبسة زر أو فيروس يخترج جهار اللابتوب، بعكس الكتب الورقية التي تظل في مكانها، ويمكنك لمسها بيديك، أيضًا العلاقة العاطفية مع الكتب الورقية، إذ تحمل رائحتك وبصمات أصابعك، وخربشاتك، وتاريخك القرائي لها، أما الكتب الإلكترونية لا تستيطع أن تنشئ معها علاقة تبادلية محسوسة، أن تكتب على حوافها، تبقى جديدة دائمًا، رغم أني أنشأت مكتبة إلكترونية خاصة بي، تضم قرابة ألفي كتاب، وفهرستها بحسب التخصص.

  • حدّثينا عن مكتبتك؟

في مكتبتي الأولى في منزل الأسرة بمدينة تعز، ينتظم أكثر من خمسة آلاف كتاب، في الرفوف السفلية كتب التاريخ، وذلك لتخصصي الدراسي، مرتبة بحسب العصور التاريخية، مع مجلدات كتب التاريخ القروسطي، ومجلدات غير مكتملة للنقوش اليمنية القديمة، ثم كتب متنوعة في تاريخ الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس وكتب فكرية لمدارس مختلفة تحتل واجهة جدارية، وفي الواجهة الثانية والثالثة، تنتظم روايات وكتب في تاريخ الأدب والموسيقى والفن، وقواميس اللغة العربية واليمنية القديمة، وبسبب استقراري في صنعاء، بعد الزواج، أنشأت مكتبة جديدة، أكثر نوعية من الأولى، مع بقاء المكتبة الأم في تعز، كمخزن للكتب، أستعير منها الكتاب الذي أحتاجه.

  • ما الكتاب الذي تقرئينه في الوقت الحالي؟

يوميات الشاعرة الأمريكية سيلفيا بلاث.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مكتبة زينب عساف

مكتبة فايز العباس