21-أكتوبر-2022
مذكرات جار الله عمر

كتاب مذكرات جار الله عمر: الصراع على السلطة والثروة في اليمن

لم يكن جار الله عمر (1942 – 2002) شخصية عابرة في المشهد السياسي اليمني خلال النصف الثاني من القرن الماضي وصولًا إلى مطلع القرن الحالي. ولا مجازفة في القول إنه أحد أهم السياسيين اليمنيين خلال هذه الحقبة، التي شهد اليمن في تحولات سياسية هائلة وصراعات دموية عديدة كان شاهدًا عليها أحيانًا، وجزءًا منها في أحيان أخرى. ومن هنا تأتي أهمية مذكراته الصادرة عن "دار المدى" بعنوان "مذكرات جار الله عمر: الصراع على السلطة والثروة في اليمن".

قدّم عمر في مذكراته ما يساعد على فهم أزمات اليمن الحالية بوصفها امتدادًا لأزماته السابقة ومردّها إلى غياب الديمقراطية والتعددية السياسية

لكن ليس هذا وحده ما يمنحها الأهمية. فالمذكرات (وهي سلسلة مقابلات أجرتها الأكاديمية الأمريكية ليزا ودين مع جار لله عمر بين عامي 1999 – 2002، حررها وأعدها للنشر الكاتب والمؤرخ اللبناني فواز طرابلسي) شهادة نادرة على حكم اليسار الماركسي لجنوب اليمن يُدلي بها واحدٌ من أبرز قادة الحزب الاشتراكي، الحاكم في الجنوب، واليسار اليمني عمومًا. وهي أيضًا محاولة للتأريخ لتلك الحقبة، ومراجعة دوره فيها، والإجابة عن الكثير من الأسئلة العالقة حولها.

شمال اليمن بعد 26 أيلول/ سبتمبر 1962.. الثورة والثورة المضادة

البداية من شمال اليمن، حيث عايش جار الله عمر ثورة 26 أيلول/ سبتمبر عام 1962 التي أطاحت بالنظام الملكي، وما ترتب عليها من حروب بين الجمهوريين والملكيين استمرت 8 سنوات قدّم عمر قراءته لها ولما شهده اليمن خلالها، تحديدًا لجهة الانقسامات التي شهدها الصف الجمهوري.

يُعيد عمر أسباب هذه الانقسامات إلى الأخطاء التي ارتكبها بعض الضباط المصريين في تدخلهم بتفاصيل الحياة اليومية، ومعارضة بعض شيوخ القبائل والسياسيين للمشير عبد الله السلال، أول رئيس للجمهورية العربية اليمنية، بسبب اعتماده المطلق على المصريين لدرجة أن بعضهم كان يقول إن القرار السياسي اليمني كان يُتخذ في القاهرة وليس في صنعاء، إضافةً إلى توتر العلاقة بين مصر من جهة، وسوريا والعراق من جهة أخرى.

لا ينفي الأمين العام المساعد الأسبق للحزب الاشتراكي ما سبق. ولكنه، مع ذلك، يرى أن اعتماد السلال على المصريين مردّه إلى واقعيته ومعرفته بأنه لولا دعمهم للثورة لكانت سقطت منذ عامها الأول، خاصةً أنها لم تحظ بتأييد سوى عدد قليل من القبائل التي وقف مشايخها إلى جانبها إما خدمةً لمصالحهم، أو بسبب سوء علاقتهم بالإمام. والقبائل، بحسب عمر، لعبت دورًا رئيسيًا في عدم الاستقرار، وحالت دون أن تنتقل السلطة سلميًا في أي وقت من الأوقات.

انتهى الخلاف بين الجمهوريين إلى الانقلاب على السلال في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1967، ويقول عمر إن من نفذه كانوا مزيجًا من الجمهوريين والحزبيين والقوى التقليدية الذين لا يجمعهم برأيه سوى الرغبة في الإطاحة بالسلال كلٌ لغايته. وبينما رأى الجمهوريون في الانقلاب فرصة لتصحيح مسار ثورة 26 سبتمبر وإعادة توحيد صفوفهم، سعت القوى التقليدية من خلاله إلى العودة بالثورة إلى الوراء، وانتزاع السلطة من أيدي القوى الثورية. وهو ما حدث فعلًا بعد الانقلاب الذي يرى عمر أنه مهّد، بشكل أو بآخر، لأحداث آب/ أغسطس 1968 التي أجهضت جمهورية 26 سبتمبر.

وقعت أحداث آب/ أغسطس 1968 بين القوى الجديدة التي ظهرت بعد فك حصار صنعاء، وتمثلت في المقاومة الشعبية والقادة العسكريين الشباب، وبين القوى التقليدية في السلطة. أما أسبابها، فيرى عمر أنها كثيرة، لكن أهمها الصراع على السلطة الذي حسمته القوى التقليدية لصالحها بعد معركة كبيرة دارت في صنعاء يومي 23 – 24 آب/ أغسطس، وانتهت بهزيمة القوى الجديدة واعتقال عدد كبير من أعضاء حركة القوميين العربواليسار اليمني، ومن بينهم عمر.

غلاف الكتاب

قدّم جار الله عمر في حديثه عن اليمن الشمالي ما بعد الإطاحة بالملكية، تفاصيل توضح أسباب فشل ثورة 26 سبتمبر في تحقيق أهدافها، وقيام نظام ديكتاتوري ولد بعد صراعات دموية وانقلابات عسكرية أوصلت علي عبد الله صالح إلى السلطة، التي احتكرها طيلة 3 عقود ونصف.

جنوب اليمن وتجربة حكم اليسار

عاش جار الله عمر سنوات طويلة في جنوب اليمن، الذي قاد من عاصمته عدن معارضة سياسية وشعبية مسلحة ضد نظام الحكم في صنعاء، وشارك كذلك في قيادة الحزب الاشتراكي الحاكم، ما أتاح له أن يكون شاهدًا على تحولات الجنوب وأزماته من داخل أروقة الحكم. ومع أن حديثه عن الجنوب يطول، إلا أنه تركز على الخلافات والانقسامات التي شهدها نظام الحكم من جهة، والعلاقة بينه وبين نظام صنعاء من جهة أخرى.

حكم العنف والصراع على السلطة العلاقة بين قيادات نظام الحكم في الجنوب، الذي أخذت الخلافات فيه منحىً خطيرًا بعد إجبار رئيسه سالم علي ربيع المعروف باسم "سالمين" على الاستقالة، ثم إعدامه على يد رفاقه في 26 حزيران/ يونيو 1978 بعد صراعه على السلطة مع عبد الفتاح إسماعيل، الذي اشتد عقب قيام سالمين باغتيال رئيس اليمن الشمالي آنذاك أحمد حسين الغشمي، ثأرًا لمقتل سلفه إبراهيم الحمدي.

تسبب الاغتيال، إضافةً إلى عودة الكفاح المسلح للمعارضة في شمال اليمن، بحسب عمر، باشتعال الحرب بين الشمال والجنوب في شباط/ فبراير 1979. ورغم انتصار الجنوب وحلفائه في الشمال، إلا أن رفض الدول العربية والإقليمية والدولية لنتائج الحرب، ودعمها لنظام علي عبد الله صالح، وتوقف الاتحاد السوفييتي عن تزويدهم بالأسلحة بسبب رفضهم للحرب، أجبر الجنوبيين على وقف القتال والتفاوض مع صنعاء.

وبعد نحو عامين على انتهاء الحرب، انقسمت القيادة في الجنوب إلى فريقين يقودهما علي ناصر محمد، رئيس مجلس الرئاسة ونائبه علي أحمد عنتر. ويُعيد عمر أسباب الانقسام إلى الصراع على الصلاحيات والسلطة، وانعدام الثقافة بين الطرفين، ومعارضة البعض لسياسات الانفتاح الداخلية والخارجية التي انتهجها ناصر محمد مع الشمال ودول الخليج.

وبسبب غياب التقاليد الديمقراطية داخل الحزب لحل الخلافات بوسائل سلمية، بحسب عمر، انتقل الخلاف إلى الجيش الذي وقفت غالبية تشكيلاته إلى جانب عنتر حين اندلعت الحرب بينه وبين علي ناصر محمد في 13 كانون الثاني/ يناير 1986، واستمرت شهرًا واحدًا قُتل خلاله آلاف الأشخاص من كلا الطرفين، بما في ذلك بعض كبار قيادات الحزب، وفي مقدمتهم علي أحمد عنتر الذي حسم الموالون له الحرب لصالحهم.

يرى عمر أن قرار قيادة الجنوب الانفصال عن الشمال خلال حرب 1994 وفّر لنظام صالح ذريعة لاستخدام القوة ضد الحزب

شكلت الحرب بين فريقي الحزب الاشتراكي منعطفًا مهمًا بالنسبة إلى الحزب وأعضائه والمجتمع اليمني الجنوبي عمومًا، بل إنها دفعت البعض أيضًا إلى القول بأن تجربة اليسار والاشتراكية في الجنوب قد سقطت تاريخيًا نتيجة هذه الأحداث الدموية. ورغم معارضة عمر لما سبق، إلا أنه يعترف بأن الحرب أضعفت الحزب الاشتراكي، وأبعدت الناس عنه، وكرّست العنف وسيلةً لحل المشكلات داخل الحزب والسلطة.

جار الله عمر بعد أحداث يناير 1986.. مفارقات وأسئلة ملحة

وجد جار الله عمر نفسه، بعد الحرب بين فريقي الحزب، أمام تساؤلات ملحة: لماذا يتقاتل أبناء الحزب الاشتراكي في الجنوب؟ لم أُعدم سالمين وقُتل الحمدي وغيرهما من رجالات السلطة في شمال اليمن وجنوبه؟ ولم يأتي حكّام اليمن إلى السلطة بانقلاب، ولا يخرجون منها إلا بانقلاب؟

الإجابة في غياب الديمقراطية والتعددية السياسية. هذا ما أدركه السياسي اليمني الراحل بعد أزمة شخصية وفكرية وصراع طويل بين قناعاته السابقة، وواقع ما بعد أحداث يناير التي وضعته أمام حقيقة أنهم: "معارضون للنظام في الجمهورية العربية اليمنية ومعارضون للمؤتمر الشعبي العام الذي يحكم باسمه ونطالبه بالديموقراطية لكننا نقيم نظام الحزب الواحد في عدن، إذًا لا يوجد لدينا مصداقية (...) نحن نطالب بالتغيير الديموقراطي في صنعاء (...) ونحن نؤيد نظام الحزب الواحد في عدن. هذه تضعف مصداقيتنا، لا يوجد لدينا مصداقية".

واجه عمر بسبب موقفه هذا ودعوته إلى الديمقراطية والتعددية السياسية حملة شرسة تطالبه بالتراجع عن دعوته. ورغم تأييد بعض قادة الحزب الاشتراكي لأفكاره، إلا أن التحول الديمقراطي لم يحدث، وكذا التعددية السياسية. وبدلًا منهما، ذهب الجنوب باتجاه الوحدة مع الشمال.

الوحدة بين الشمال والجنوب والطريق إلى حرب أيار/ مايو 1994

لم يكن عمر معارضًا للوحدة بين الشمال والجنوب، وإنما لشكلها والكيفية التي تحققت بها، إذ اعتقد حينها أنه من الأفضل قيام وحدة كونفدرالية تأتي بعد مرحلة انتقالية ينتقل الجنوب خلالها نحو الديمقراطية والتعددية السياسية. ولكن ما حدث أن رئاسة الجنوب آنذاك، علي سالم البيض، اتفق مع علي عبد الله صالح، من تلقاء نفسه ودون الرجوع إلى المكتب السياسي للحزب، على قيام وحدة اندماجية يرى أنها مهدت للحرب بين شطري اليمن، وأفول الدولة الاشتراكية في الجنوب.

يرى عمر أن غاية علي عبد الله صالح من الوحدة مع الجنوب هي: ألا يكون هناك شخصية دولية لدولة في الجنوب، وألا يكون هناك جيش جنوبي، والتخلص من الحزب الاشتراكي اليمني. ولذلك ما إن قامت الوحدة، في 22 أيار/ مايو 1990 حتى بدأت الخلافات تظهر بين الطرفين حول قضايا عديدة، منها الغزو العراقي للكويت، والدستور، والتعامل مع المعارضة السابقة لكلا النظامين، وفصل نظام صنعاء للمقاتلين الشماليين من الجيش الجنوبي ثم استقطابهم إلى صفه بعد تدهور علاقتهم بالحزب الاشتراكي بسبب عجز قيادته عن إعادتهم إلى وظائفهم.

التاريخ في اليمن يكرر نفسه أكثر من مرة ولكن على عكس ما يقول ماركس: في المرة الأولى مأساوي وفي الثانية ملهاة ومهزلة ومضحكة

ناهيك عن الإدارة الحكومية من حيث تنظيم وحدات الجيش، وكيفية دمج المؤسسات المدنية والعسكرية. غير أن الخلاف الأهم دار حول عدم اتخاذ صنعاء أي إجراءات ضد عمليات اغتيال قادة الحزب الاشتراكي، التي نفذتها الحركات الجهادية.

يقول جار الله عمر إن تعامل صالح ونظامه مع الجنوب كان قائمًا على اعتقاده بأن: "الشمال هو الأكثرية السكانية أما الجنوب فيمثل الأقلية وبالتالي الشمال هو الأصل والجنوب هو الفرع". وأضاف: "كان رأي النظام القائم في صنعاء، الذي لم يفصح عنه علنًا مع أنه المحرك لسياسته، أن النظام القائم في عدن ينتمي إلى معسكر هُزم هو المعسكر الاشتراكي، وهو ادعى أنه ينتمي إلى معسكر منتصر".

دفع الخلاف بين الطرفين، وتحوله إلى أزمة، جار الله عمر إلى اقتراح انتقال الحزب الاشتراكي إلى المعارضة على أعضاء مكتبه السياسي لقطع الطريق على اللجوء إلى العنف، لكن الاقتراح رُفض دون إيجاد آلية لحل القضايا العالقة بينهم وبين نظام صالح.

ومع استمرار الأزمة، وتراكم القضايا العالقة بين الطرفين، قرر علي سالم البيض الاعتكاف في عدن. لكن عمر يرى أن السبب الحقيقي لاعتكافه هو خلافه مع علي عبد الله صالح حول صلاحيات نائب رئيس الجمهورية. فالبيض كان يعتقد أنه الرجل الثاني في الدولة الجديدة، غير أنه كان في الواقع نائبًا شكليًا بحسب عمر، الذي يقول إن النائب الفعلي كان العميد علي محسن صالح الأحمر، وأحيانًا الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر.

وبانتقال الخلاف إلى القوات المسلحة، بعد استهداف جيش الشمال للجيش الجنوبي وتصفية وحداته في الشمال، انعدمت فرص الحل السياسي، فاندلعت الحرب بين الطرفين في 5 أيار/ مايو 1994، وأعلن الحزب الاشتراكي الانفصال الذي يرى عمر أنه نوع من العمل الاحتجاجي الساذج أو الانفعالي العصبي الذي برر لنظام صالح استخدام القوة، ذلك أن الأخير خاض الحرب تحت شعار مقدس هو "الوحدة".

مذكرات جار الله عمر شهادة نادرة على حكم اليسار الماركسي لجنوب اليمن يدلي بها واحدٌ من أبرز قادة الحزب الاشتراكي واليسار اليمني

عارض عمر الحرب والانفصال معًا، فاتهمه بعض رفاقه بالخيانة بسبب موقفه. ولكنه، مع ذلك، يؤكد أنه كان مستعدًا للقتال معهم لو أنهم لم يعلنوا الانفصال الذي وفّر لنظام صالح، برأيه، ذريعة قوية لاستخدام القوة ضد الحزب الاشتراكي والناس في الجنوب. هكذا وجد جار الله عمر نفسه مضطرًا لمغادرة اليمن باتجاه المنفى، بعد شعوره بأنه أصبح شخصية غير مقبولة لا من رفاقه، ولا من الطرف الآخر.

قدّم السياسي اليمني الراحل في مذكراته ما يساعد على فهم أزمات اليمن الحالية، بوصفها امتدادًا لأزماته السابقة ومردّها إلى غياب الديمقراطية والتعددية السياسية وإقصاء الآخر والسعي إلى الانفراد بالسلطة. فالتاريخ في اليمن، كما يقول عمر، يكرر نفسه أكثر من مرة، ولكن على عكس ما يقول ماركس: في المرة الأولى مأساوي وفي الثانية ملهاة ومهزلة ومضحكة.