06-أكتوبر-2023
لوحة لـ فاتح المدرس/ سوريا

لوحة لـ فاتح المدرس/ سوريا

كما أنّ الموتى غير متشابهين، كذلك نعاتهم الذين يوسعون مساحة الفقد ويقلصونها بحسب مهنة الفقيد ومكانته وأثره، إن كان ما خلّفه مقتصرًا على السمعة والأولاد والحارة، أو شمل إنتاج العلم والأدب والفن.

حضرتُ مآتم كثيرة في سهول سوريا الداخلية، وأصغيت للأحاديث التي تدور في بيوت أُسرٍ فقدت أحد أفرادها للتّو، ورأيت كيف يتوافد رجالات العائلة والأصدقاء إلى غرفة الضيوف لمساندة بعضهم البعض، في الوقت الذي تبكي فيه النساء عند رأس الميت المسجى في غرفة الجلوس، لتتولد شرارة النحيب وتسيل الدموع مع كل عناق.

ولأن الموت غالبًا ما يأتي في الليل، فعلى الناس انتظار الصباح ليشرعوا في إتمام مراسم الدفن والعزاء، وحتى ذلك الحين سيجتمع المقرّبون في منزل الفقيد يبكون مع أسرته ويحاولون التخفيف عنها. يُطرق الرجال في الأرض دون أن يجرؤ معظمهم على فتح فمه خوفًا من أن يقول كلمة فيغور صوته. عويل النساء يعلو في حجرة الميت، لا تغني يا جدّة لا تغني مزيدًا من العتابا فالقلوب تتساقط في الغرفة المجاورة.

وكلما كان الميت أقرب كلما استعصى الكلام عنه، حتى الترحم عليه في اللحظات الأولى يجرح، فالأمر يحتاج ساعات لإدراك الحقيقة وأيامًا لقبولها وشهورًا للتعايش معها وسنين طويلة ليصبح ذكرى

يستجمعون قوتهم مجدّدًا، تتنقّل علبة المناديل، أحدهم يمسح عيونه، وهناك من يواجه الحائط وينخر، آخر يقرّب منفضة السجائر لابن عمه ثمّ يطلب المياه من فتى بكى قليلًا ثم سكت يراقب المشهد دون أن يدري كم سيبكي حين يحملون الميت على أكتافهم ويخرجونه من بيته باتجاه المقبرة. يشق الولد طريقه إلى المطبخ مشوّشًا بين شبان يعدّون تجهيزات بث القرآن وآخرين يفتحون باب الدار على مصراعيه، ثم يفكر في أنّه سيتغيب عن المدرسة غدًا فيسعد للفكرة ثمّ يشعر بالخزي لشعوره. حين يعود بالمياه، يأخذها منه أخوه الكبير وهو يجيب أبو فلان الذي دخل منذ لحظات عن سؤال كيف ومتى حصلت الوفاة؟

عندما تأتي اللحظة التي يستولي فيها الصمت على ذرّات الهواء ولا أحد يدري كيف سيخرقه، يتنحنح رجلٌ حنونٌ في بداية الكهولة، ويرمي بأول عبارة خارج الموضوع، بعيدًا على الدائرة التي يتمدد في وسطها الميت، فيتحدث عن خبر عام أو توقعات الأمطار، أو من قوة الثبات وفهم الدنيا لا يحتاج مقدمات كي يبدأ قصة لا علاقة لها بسبب الاجتماع في آخر الليل فيروي: "بالسبعاوتمانين جاء عمي أبو محمد وقال.."، وبهذه الطريقة ينتشل الحاضرين ويرميهم كي يجفّوا خارج بركة الدموع عبر صرف أنظارهم عن مصيبتهم بعض لوقت، لأن أرواحهم بحاجة إلى التماسك للنهوض والقيام بواجب المرحوم، الذي قد يمتعض ابنه أو أخوه من حديث ذلك العجوز فالوقت برأيهم غير مناسب لأحاديث على الهامش، بيد أنّ ذاك الكهل يدرك ضرورة ما يفعل فيمضي قُدمًا في الكلام كي يؤكد على استمرار الدنيا ومتانة الحياة.

وكلما كان الميت أقرب كلما استعصى الكلام عنه، حتى الترحم عليه في اللحظات الأولى يجرح، فالأمر يحتاج ساعات لإدراك الحقيقة وأيامًا لقبولها وشهورًا للتعايش معها وسنين طويلة ليصبح ذكرى. تزدحم الأرجاء وينشغل أهل الفقيد باستقبال من هبّ ودب لمواساتهم، لكن لمّا تنتهي أيام العزاء، لا تواظب على زيارتهم سوى الوجوه نفسها التي اجتمعت بُعيد الوفاة.

وإذا أراد أحد الزائرين استحضار مناقب الفقيد والتعبير عن مودته له وحصل أن استذكر قصة عنه، جدّف أهل البيت اللحظات سريعًا بأن يركّزوا في صبّ المتة أو تقوية نار المدفأة، متجنبين أن تلتقي عيونهم فيسطع الحزن على الفراغ المدوي وينهار الصمود المصطنع.

وأحيانًا يموت إنسان مثل خالد خليفة فينسكب الحزن على مواقع التواصل، وتتنوع التعبيرات عن الفجيعة بموته المفاجئ، ليُبرِز قرّاؤه قيمته الأدبية في سياق بلد يحاول السوريون فهمه وتقدير من سعى إلى تقديم تفسير لما حصل وجواب عن سؤال من نحن؟ وتُستحضر سماته الشخصية التي طبعت اللطافة والتواضع والودّ في طين من عرفه وجالسه. وفي جنازته، لا يجد محبوه أنفسهم إلا وهم يودعونه بالبكاء والتصفيق.