13-يوليو-2022
جوزيه ساراماغو

جوزيه ساراماغو

حين كتب البرتغالي جوزيه ساراماغو روايته هذه كان في نحو الثالثة والثمانين من عمره، وهو سنٌّ يكون الإنسان فيه على حافة قبره. لا عجب إذًا أن تستحوذ فكرة الموت على إنسان بلغ ذلك العمر، بوصفها حقيقة صلبة شديدة الدنو، لا يفصله عنها إلا حاجز زمني يسير يصير مستبعَدًا أن يقاس بالسنوات بل بالأشهر والأسابيع والأيام.

ليس منا إلا من يعي الموت ويعرف يقينًا أنه ملاقيه، وأنَّ يومًا ما من أيام حياته سيكون الأخير، وأنه قد تتقدَّم ذلك اليومَ فترةُ مرض وألم لعلها تطول أو تقصر. نعم قد تذكِّرنا بالموتِ المواعظُ الدينية أو أخبار الوفاة التي لا يخلو يوم منها، لكننا دائمًا نلوذ بذلك التغافل المتعمد، والتناسي المقصود، فنتمثل لا شعوريًا فكرة "يحدث للآخرين فقط"، ونرمي بفكرة الموت إلى مستقبل زمني بعيد غير محدد، ونواصل حياتنا مغترين بعنفوان الشباب ووفرة الصحة وامتداد الآمال.

ليس منا إلا من يعي الموت ويعرف يقينًا أنه ملاقيه، وأنَّ يومًا ما من أيام حياته سيكون الأخير، وأنه قد تتقدَّم ذلك اليومَ فترةُ مرض وألم لعلها تطول أو تقصر

بيد أن الإنسان حين يبلغ عمرًا معينًا يكون في مواجهة صريحة مع الحقيقة القاسية، فلا يعود ثمة مجال للتغافل ولا للتناسي، ولا يبقى هنالك مستقبل زمني يمكن أن يقذف نحوه بفكرة الموت، بل يواجه الإنسان نفسه بأنه يستدبر من عمره أكثر مما يستقبل، وأن ذلك الموت الذي فرَّ منه فإنه ملاقيه عن قريب. كيف يا ترى تكون حالة الإنسان الشعورية في ذلك المقام؟ هذا سؤال يستحيل على الشاب، أو حتى الكهل، أن يعرف جوابه على وجه اليقين إلا على سبيل الاستئناس الأدبي والتصورات النظرية، وأما حقيقة الشعور فسيكون عليه أن يُردَّ إلى أرذل العمر كي يعرفها ويجربها، ذلك أن من المستحيل على الإنسان أن يتمثل حقيقة الحالة الشعورية لعمر معين إلا إن بلغ ذلك العمر وجربها بنفسه.

خوسيه ساراماغو، حين بلغ السن المنذرة بالفناء، حاول التصالح مع الموت الذي أمسى قاب قوسين منه أو أدنى، فوضع روايته البديعة هذه التي افترض فيها حدثًا مستحيلًا في الواقع هو "انقطاع الموت"، ثم رتب على الحدث المفترَض تداعياته المنطقية المتخيَّلة على عدة مستويات ممكنة متعلقة بالاجتماع الإنساني.

يقوم افتراض ساراماغو على العناصر التالية:

- في زمن غير محدد في بلد غير محدد ذي نظام ملكي، ينتبه الناس إلى أن أحدًا لم يمت منذ بداية العام الجديد.

- انقطاع الموت يشمل البشر وحدهم، أما الحيوانات فتموت كالمعتاد.

- انقطاع الموت لم يشمل الأرض قاطبة، بل ذلك البلد المعين وحده.

- انقطاع الموت لم يسبب ثباتًا في الأعمار، بل يستمر الناس في التقدم نحو شيخوختهم.

بإزاء هذا النظام الكوني الجديد، استخفَّت الناسَ في البداية فرحةٌ عارمةٌ بسبب تخلصهم، إلى الأبد، من ذلك الكابوس المرعب الذي أقض مضجع البشرية منذ نشأتها. لكن الاحتفالات لم تدم طويلًا؛ إذ سرعان ما طفت على السطح تداعيات وخيمة لم تكن لتخطر على البال، ما دفع بالبشرية إلى إعادة التفكير في ذلك الخلود المشتهى، والذي أمسى، بعد أن ظهرت آثاره، لعنة عظيمة لم يصِب البشرية مثلُها منذ فجر التاريخ.

لم يمض إلا قليل من الوقت على انقطاع الموت حتى انهارت قطاعات حيوية أنذر انهيارها بأزمات سياسية واقتصادية واجتماعية مرعبة، وهوما دفع بالبلد إلى إعادة ترتيب شؤونه ترتيبًا جذريًا، ليتبين لاحقًا أن كل الجهود المبذولة كانت جهودًا يائسة لا تبلغ أن تحتوي الكارثة وتسيطر عليها. وإليكم ما تخيله الكاتب من تلك التداعيات الكارثية لانقطاع الموت:

- تستمد الدولة سلطتها من سلطة الكنيسة، وتستمد الكنيسة سلطتها من فكرة المَعاد (البعث بعد الموت)، والعدالة الإلهية، والجزاء الأخروي. بانقطاع الموت لا تعود ثمة آخرة، فلا يعود لوجود الإله أي معنى، ومن ثمَّ ينهار النظام الكنسي من أساسه وبانهياره تنهار سلطة الدولة.

- فكرة الخلود في الحياة الدنيا تغيِّر في الإنسان مفهوم الخوف، وهو تغيُّر سينعكس ولا بد على علاقته بالسلطة الحاكمة، والتي ستفقد جزءًا كبيرًا من سطوتها المستمدة من زرع الخوف من الموت.

- انهار قطاع دفن الموتى، وأفلست الوكالات المكلفة بعمليات الدفن، فكان لانهيار هذا القطاع الحيوي آثار اجتماعية وخيمة. استطاع قطاع الدفن أن يتدارك المأساة -جزئيًا- بأن فرض رسومًا على دفن الحيوانات الميتة.

- انهار جزء كبير من قطاع التأمين، إذ لن يعود ثمة معنى للتأمين على الحياة. وبالفعل فقد ثار الناس على شركات التأمين وطالبوا باستعادة أموالهم، لكن نظام التأمين تدارك الكارثة بذكاء حين اعتبر بلوغ سن الثمانين موتًا افتراضيًا، لتتجدد العقود تلقائيًا إلى ثمانين سنة أخرى وهكذا إلى الأبد.

- انتهى الموت لكن لم ينته المرض. اختل نظام المستشفيات القائم على دخول الناس مرضى وخروجهم أصحاء أو موتى. بانقطاع الموت انغلقت الدارة فلم يعد هناك خروج من المستشفيات، بل دخول فقط، وهو ما سبب اكتظاظًا كارثيًا دفع الحكومة إلى ابتداع نظام جديد للإيواء اسمه "بيوت الأفول السعيد"، وهي منازل ينفى إليها الشيوخ والزمنى والميؤوس من شفائهم.

- انقطاع الموت مع استمرار التقدم في العمر سيسبب صعودًا صاروخيًا للشيخوخة والعجز؛ سينقلب هرم الأعمار انقلابًا مأساويًا، وسيصير المجتمع مكونًا من عدد هائل متزايد من الشيوخ العاجزين، والذين يحتاجون إلى رعاية مستمرة. تلك الرعاية المستمرة تتطلب تفرغًا من أيادي شابة تتناقص باستمرار وتُستنزف جهودُها، وهو ما ينذر على المدى الطويل بكارثة يصعب تصورها.

يعتمد ساراماغو في رواياته على أسلوبه المعتاد، والفريد من نوعه، والذي يقوم على فقرات طويلة تمزج بين السرد والتأمل الفلسفي والحوار دون أي فاصل بينها

اعتمد الكاتب في عرضه لهذه التصورات على أسلوبه المعتاد، والفريد من نوعه، والذي يقوم على فقرات طويلة تمزج بين السرد والتأمل الفلسفي والحوار دون أي فاصل بينها، اللهم إلا علامةَ ترقيمٍ يتيمةً هي الفاصلةُ المسكينة. لقد تعرفتُ على هذا الأسلوب المتفرد للكاتب في روايته "العمى"، ثم إنه في روايته هذه "انقطاعات الموت" كان أكثر تجريدًا وابتعادًا عن التفاصيل والأوصاف الشكلية، بحيث يمنح القارئ نظرة علوية بانورامية شاملة (عين الطائر)، ويحلِّق به، بسلاسة تامة، بين الأحداث والأشخاص والأماكن، حتى ليحسَّ الواحد بأنه استحال شبحا مهوِّمًا في فضاء المدينة المنكوبة بلعنة الخلود؛ يتنقَّل بنفس السهولة بين مخدع الملكة في القصر الملكي والأزقة والشوارع، بين اجتماعات الوزراء وبيوت الأفول السعيد، ثم يستمع إلى المكالمات الهاتفية بين الوزير والأسقف، أو بين الوزير وأعضاء المافيا... إلخ. وليس عبثًا أني استعملتُ هنا فعل الاستماع، إذ هو في الواقع الفعلُ الأكثر تعبيرًا عن تجربة قراءة هذه الرواية؛ فمع التجريد الشديد للأسلوب، وانعدام أسماء الشخصيات، بل وانعدام عامل الوصف بشكل كلي تقريبًا، تحولت الرواية إلى شيء أشبه بهلوسات الأحلام أو بشريط صوتي مستمر (ربما أسميها "الرواية الصوتية"). هي روايةٌ تُسمع أكثر مما تُقرأ، تنبعث من سطورها وفقراتها أصوات حوارية متداخلة تكاد تكون مجهولة المصدر، ولا يتدخل الكاتب للانتقال من مكان إلى آخر، أو من متكلم إلى آخر إلا في أضيق الحدود.

انقطاعات الموت

أذكر هنا أن الكاتب خرج عن أسلوبه "الصوتي" مرة واحدة فقط في النصف الأول من الرواية، حين روى لنا -بالطريقة السردية المعتادة- كيف تجرأت أسرة ما على نقل مريضين منها إلى خارج حدود البلدة ليموتا هناك. ولم يفت الكاتبَ أن "يعتذر" من القارئ على حكايته للواقعة بأسلوب سردي "ولَّى زمانه"، لكن الحادثة كانت من الأهمية بحيث استحقت أن يُكسى سردُها بتفاصيل كافية، ذلك لأنها فتحت الباب لتقدم نوعي في القصة، بعد أن شاع في الناس تكيُّف أخلاقي جديد سمحوا لأنفسهم بموجبه أن ينقلوا مرضاهم إلى خارج حدود البلدة ليموتوا هناك. عارضت الحكومة بشدة هذه النزعات الجديدة، فيما انبثقت من الشعب منظمة سمَّت نفسها "المافيا"، وكرّست تنفسها لتقديم خدمات الموت للراغبين في ذلك، وهو ما خلق أزمات حادة جديدة بين الحكومة والمافيا، ناهيك عن البلد المجاور الذي اعترض على انتهاك أرضه، فضلًا عن رغبة أناس أجانب طامعين في الخلود في الهجرة إلى بلد يأمنون فيه على أنفسهم من الموت.

لا نستطيع، وسط أمواج الافتراضات المتلاطمة هذه، أن نفلت من أسئلة منطقية بريئة تطرح نفسها، وربما تسوِّل لنا حماقتنا أن ننتظر من ساراماغو تبريرًا منطقيًا مقنعًا. مثلًا: ماذا لو قُطع رأس إنسان ما داخل البلدة؟ كيف سيستمر في العيش مقطوع الرأس؟ انتظرتُ -ويالحماقتي- أن يعرض ساراماغو لاحتمال كهذا، لكن كلُّ ما فعله كاتبنا العتيد أن طرح تساؤلًا "طبيًا" مشروعًا حول إمكانية استمرار الحياة في إنسان مبقور البطن تتدلى أحشاؤه خارج جوفه! هذا هو التنازل الوحيد الذي قدَّمه ساراماغو ليعترف بما قد يكون في خياله من تناقض، ولأن ساراماغو هو آخر كاتب يمكن أن يُحاسَب على تناقضاته فليس على القارئ المسكين إلا أن يخرس، وأن يواصل القراءة متذكرًا دائمًا أن الكاتب هو ساراماغو، وأن ساراماغو يقول ما يشاء متعاليًا عن كل تعقيب، متساميًا عن كل نقد.

يختلف القسم الثاني من رواية "انقطاعات الموت" اختلافًا جذريًا عن قسمها الأول حتى كأنه رواية مستقلة

 

في خضم هذه الرؤى البانورامية القائمة على افتراض تداعيات منطقية متخيَّلة، تظهر قُبيل منتصف الرواية شخصية "موت"، في انتقال مفاجئ وصادم من الخيال العقلاني إلى الفانتازيا الصريحة. يتضح لنا فجأة أن انقطاع الموت كان نتيجة رغبة مزاجية من شخصية شبحية عاقلة هي "موت"، أو المعادل الروائي لقابض الأرواح في المعتقدات الدينية، وأن "موت" (وهي شخصية أنثى باعتبار أن لفظ morte مؤنث) قد وقعت في الحيرة والتخبط، وأنها تراجعت فجأة عن قرارها بكفِّ منجلها عن حصد الأرواح، ثم قامت بتعديل القرار بحيث صارت تعلم برسالة بنفسجية كلَّ من بقي في عمره المقدَّر أسبوعٌ واحد.

هنا ننتقل إلى النصف الثاني من الرواية، والذي يختلف اختلافًا جذريًا عن نصفها الأول حتى لكأنه رواية مستقلة. انتقل الكاتب من الرؤية الشاملة والتحليق الشبحي الحر في أجواء المدينة إلى قصة جزئية حول علاقة غريبة بين "موت" وعازف كمان بشري.

يتضح لنا في النصف الثاني من الرواية أن "موت" شخصية مزاجية متقلبة، وأنه يجوز عليها السهو والخطأ، وأنها خاضعة لسلطة مجهولة أعلى منها، مستكنةٍ في تعاليها الصامت، وأنها كذلك عرضة لانفعالات نفسية تذكِّرنا بنواقصنا البشرية. لقد انحدر الكاتب في نصف الرواية الثاني (ويا لها وقاحةً مني أن أستعمل هذا الفعل في حضرة ساراماغو) إلى أسلوب السرد المعتاد ذاك الذي "ولَّى زمانه"، فروى لنا كيف أن خللًا حدث في إرسال الرسائل البنفسجية نتج عنه عودة إحدى تلك الرسائل، وبتتبع الخيوط تعلم "موت" أن عودة الرسالة ناتجة عن "خطأ إداري" يصعب تداركه، ما اضطرها إلى التنازل عن كبريائها الأزلي، والذهاب بنفسها لتسليم رسالة الموت إلى مستحقها. يذكِّرنا هذا بأجواء مسلسل الأنيمي "مذكرة الموت" (Death Note).

تتخذ "موت" جسدًا بشريًا أنثويًا فاتنًا (فهي قادرة على التشكل)، وتنشأ علاقة معقدة شديدة الغرابة بينها وبين عازف الكمان. ثمة ما يشير إلى أن رابطة رومانسية أو شبه رومانسية قد نشأت بينهما، لتنتهي الرواية بمشهد ملغز قد يُفهم منه أن "موت" ماتت في نهاية المطاف، وهكذا خُتمت الرواية بنفس العبارة التي افتُتحت بها: "في اليوم التالي لم يمت أحد"، وهي عبارةٌ وإن بدت مرحة متفائلة في مطلع الرواية، فإنها تحولت في ختامها إلى واحدة من أشد النهايات الروائية رعبًا ومأساوية على الإطلاق.

إن كان انقطاع الموت في بداية الرواية ناتجًا عن سلوك مزاجي متعمَّد من شخصية "موت"، فإن انقطاعه في النهاية ناتج عن فناء الموت نفسه، حيث نواجه، في رعب شديد، حقيقة أنْ لا أحد بعد الآن سيقبض أرواح البشر، ومن ثمَّ سيكون على البشرية أن تواجه مصيرًا تعجز العقول مهما تشاءمت أن تتصور مدى سوداويته.

هي إذًا روايةٌ في مديح الموت، كأن كاتبها يفتح ذراعيه له مرحِّبًا به، متصالحًا معه ومعتذرًا منه عن سوء ظنه به، وواجدًا فيه خلاصًا شخصيًا هو في حقيقته خلاص للبشرية جمعاء.

هي رواية ستظلُّ صامتًا مجمَّد الحواس مشلول التفكير للحظات بعد قراءة سطرها الأخير، وستنتابك هواجس شتى وسيدبُّ في أعماق نفسك خوفٌ غامض، ثم ستتذكر أن كل ما قرأتَه خيالٌ محضٌ مستحيل التحقق، حينئذ ستتنهَّد بارتياح وتقول في نفسك: حمدًا لله على نعمة الموت!