17-أبريل-2023
مقبرة في مدينة سلا المغربية

مقبرة في مدينة سلا المغربية

هناك فضاءات بعينها فيها يلتئم شمل المعنيين بالأمر ذاته. هذه الفضاءات عرفت، بطبيعة الحال تطوّرًا عبر الزمن. فالفضاءات التي تجمع من ينشغلون بالرياضة اليوم ليست هي ذاتها التي كانت تلاقي فيما بينهم بالأمس. فعلى سبيل المثال، كانت بعض المقاهي تشتهر بأسماء الفرق الكروية التي ترتادها، بل إنها لم تكن تُعرف إلا بتلك الأسماء، فيها كانت تتقوى الولاءات وتُحلّ المشاكل، وتُطرح القضايا المادية والرياضية. واليوم، تحولت فضاءات الرياضيين إلى نواد خاصة تجمع بين التدريب والترفيه والتنسيق. بل إن تلك الفضاءات أصبحت تتوزع حسب طبيعة الرياضة و"اختصاصها". فالفضاءات التي تضم أصحاب كرة القدم، على سبيل المثال، ليست بالضرورة، هي تلك التي تجمع الملاكمين... الخلاصة أن للرياضيين فضاءاتهم الخاصة، يلتقون في رحابها، ويطرحون فيها قضاياهم، وينسقون برامجهم. وبالمثل، للمقاولين كذلك فضاءاتهم، وهي اليوم عبارة عن نواد وملاه كبيرة، فيها تعقد الصفقات، وتُتبادل المصالح، وتُطرح القضايا، وتحلّ المشاكل.

ما أصبحنا نلاحظه بعد تشتّت كثير من الأحزاب، وبرودة العلاقة بين من يشتغلون بالسّياسة، وابتعاد بعضهم عن بعض، هو أنّ الفضاءات المعهودة لالتئام عناصر الحزب نفسه، أو التقائه مع حزب آخر، لم تعد تعمل

ما يعنينا هنا ليس الفضاءات التي تتمّ فيها الصفقات الاقتصادية، وإنما تلك التي تحسم فيها الصّفقات السّياسية. حتى وقت قريب، كانت مراكز الأحزاب هي الأماكن التي تتمّ فيها اللقاءات التي تخصّ أفراد الحزب نفسه، أو المفاوضات التي تعني الأحزاب فيما بينها. وعندما تُطرح بعض القضايا ذات الأهمية، كالنزاع بين أطراف الحزب، أو المفاوضة على تنسيق مع حزب آخر، كانت "البيوتات الكبيرة" هي التي تستقبل هذا النوع من اللقاءات التي قد يتطلب شيئًا من الحميمية، ومراعاة الحساسيات، وحصر عدد المتدخلين، بل وتوظيف الاستضافة وسيلة للإقناع وأداة للإرضاء.

غير أنّ ما أصبحنا نلاحظه بعد تشتّت كثير من الأحزاب، وبرودة العلاقة بين من يشتغلون بالسّياسة، وابتعاد بعضهم عن بعض، هو أنّ الفضاءات المعهودة لالتئام عناصر الحزب نفسه، أو التقائه مع حزب آخر، لم تعد تعمل، أو لنقل إنّها لم تعد قادرة على لمّ الشتات وإتاحة الفرص لتبادل الآراء وطرح القضايا، حتى إنّ عناصر الحزب نفسه لم يعد يتاح لهم أن يجتمعوا بـ"إخوانهم" إلّا في القليل النّادر. وربّما لأجل ذلك صار من غير اليسير حلّ النّزاعات الحزبية، خصوصًا في تلك الفترات التي تعرف تزاحمًا حول الترشيحات واقتراح المناصب، حيث يكون على "المنسّقين" أن يتنقّلوا بين الأماكن كي يقرّبوا الآراء ويوفّقوا بينها. ولا يخفى ما لغياب الفضاءات الخاصّة من تأثير على تشتت الآراء وتفاقم الخلافات. إذ إن المكان، كما هو معلوم، يلعب دورًا أساسيًا في تقوية العلاقات الاجتماعية، بل في خلقها وتمتين عراها. ولا ينبغي أن يغرب عن أذهاننا ما لاقتسام الفضاء نفسه و"قرب الجوار" من تأثير على أشكال القرابة جميعها. يعمل المكان على تقليص الفروق، وتقريب المسافات المادية والمعنوية. فمقرّ الحزب، على سبيل المثال، كان دومًا رمزًا لاستقراره، بل أداة لذلك الاستقرار، إنه "الدار" التي يقصدها كل من له علاقة بالحزب، أو من يريد أن يربط معه علاقة من العلاقات.

ربما تعويضًا عن غياب هذه الأمكنة وتقلّص أهميتها، أخذنا نلاحظ أن كثيرًا من رجال السياسة أصبحوا يتصيّدون مناسبات حفلات التهنئة بالأعياد الدينية والوطنية كي يتلاقوا فيما بينهم ويكشفوا عن نواياهم. خصوصًا وأن هذه المناسبات تلاقي بين الجميع، وتبدو نوعًا من المصادفات أكثر منها تخطيطات ونيّات مُبَيّتة. إلّا أنّ ما أصبح مثيرًا للانتباه، عندنا في المغرب، هو "استغلال" الجنائز ومناسبات دفن بعض الشخصيات السياسية، فرصًا للقاء زعامات، وتسريب معلومات، وتقديم طلبات، وعقد تحالفات، واقتراح حلول، وعرض مبادرات، وإفصاح عن مشروعات، حتى إنّ هذه المناسبات تكاد تصبح، في بعض الحالات، تجمّعًا وطنيًّا تُمثّل فيه الأحزابُ جميعُها، لدرجة أن أقرباء الدّفين قلّما يتمكّنون من تبيّن الرابطة التي تشدّ فقيدهم إلى أغلب من توافدوا على جنازته، فيخيّل إليهم أن الحاضرين لم يتكلّفوا عناء التنقّل مواساةً لهم أساسًا، بقدر ما أنّهم أكّدوا الحضور من أجل أن "يواسيَ" بعضُهم بعضًا، لكنهم ينتهون بأن يتوهموا، أو يفترضوا، أن فقيدهم كان يتمتع بمكانة مرموقة، إذ لولاها لما أمكنه أن يجمع هذا الحشد الوفير. غير أن ما يعني المؤبّنين بالفعل هو "فضاء الجنازة"، خصوصًا وأنّهم يكونون متأكدين من حضور الصحافة بمختلف أشكالها، ومن أنّ هذا الفضاء الذي سيجمعهم مع الأسماء المعروفة في الساحة السياسية، سيتمدّد ويمتدّ عبر الوسائط الجديدة، وسيكتسح الشاشات الصغيرة والكبيرة ليتحول إلى مشهد (Spectacle) يظهرون فيه بين أصحاب القرار، بل يعبّرون من خلاله عن آرائهم، ويبثون تصريحاتهم، و"يمرّرون" رسائلهم.