04-أكتوبر-2023
لوحة لـ نذير اسماعيل/ سوريا

لوحة لـ نذير اسماعيل/ سوريا

ليس محظوظًا من يعيش في أزمنة صعبة، وكذلك ليس محظوظًا من يموت فيها.

في الأزمنة العادية (لا وجود لأزمنة سعيدة كما أظن) يصنع الموت مأساة، فيغدو الميت بطلًا مأساويًا من نوع ما. فرد وحيد يجابه قدره ويخسر أمامه بشرف.. بشرف حتى لو كانت خسارته هي حياته. ويأتي المشيعون والمودعون ليلعبوا أدوارهم، بكل إتقان، في المأساة. يؤدون الطقوس الأزلية ويرددون الكلمات المعتقة التي لا تبلى، فيصنعون هالة تكلل رأس الميت، محولين موته إلى قصة جديدة، أسطورية وخارقة، ويحرصون على تحصينها ضد النسيان، وعلى ألا تكون مجرد قصة عابرة.

ووسط طقوسهم وكلماتهم، فإن عقولهم، التي بلبلها حضور المصير المقيت المحتوم، تطلق الأسئلة الخالدة عن الحياة والموت، وعن هذا العالم المجهول الذي يسافر إليه ميتهم.

يذرفون الدموع ويطلقون السنتهم بالأدعية، وربما يلطمون خدودهم، فينجحون في تسكين أرواحهم المضطربة، ويبعدون عنها شبح الإحساس بالذنب.. وما إن يبتعدوا خطوات عن هذا الحفل المهيب، حتى يداهمهم إحساس كاسح لا يقاوم بأن الحياة لا تزال هنا وبأنهم ما زالوا على قيدها. ولأن حضورهم المأساة قد طهر قلوبهم وأعادها بيضاء ناصعة، فسرعان ما يكتشفون أنهم مسكونون مجددًا بحافز البقاء الطاغي، فيغبون بنهم من هواء هذا العالم الذي عاد بهيجًا فجأة.

عندما تفقد الحياة بريقها، عندما تعجز عن إغواء الأحياء بمعنى ما، بجدوى ما، وعندما تتخلى عن رقتها الهشة وعن خفتها المثيرة للأسى.. فإن الموت، بالمقابل، يفقد هيبته وثقله

في الأزمنة الصعبة، في زمننا الكالح هذا مثلًا، حيث النعوات الغزيرة، وحيث أكثر الذواكر قوة تبدأ بالخلط بين جدول الأموات وجدول الأحياء؛ فإن الموت يكف عن صنع المأساة، والميت لا يعود بإمكانه أن يغدو بطلًا مأساويًا من أي نوع. لا معركة هناك ولا خسارة مشرفة ولا مجد.

والمشيعون والمعزون يتحولون إلى نظارة ضجرين في مسرحية تراجيدية فاشلة، لا تستطيع انتزاع دمعة واحدة من عيونهم يبللون بها أرواحهم الجافة. يجلسون حائرين لا يعرفون إن كانوا أمام ممثلين فاشلين في تأدية أدوار جادة، أم أمام ممثلين بارعين في تقديم كوميديا خفية، عصية على أفهامهم وأذواقهم.

ولأنهم، في كل الأحوال، لم يحضروا مأساة، فإنهم يخرجون بقلوب ملوثة بإحساس قاتم بالذنب. ولأن عقولهم مبلبلة أصلًا بفعل جنون الحياة، فإن شبح الموت لا ينجح في إثارة أسئلة لديهم، والتساؤل عن كنه هذا الموت ومعنى هذه الحياة وطبيعة ذاك العالم الآخر.. يغدو ضربًا من الترف لا أكثر.

وفي طريقهم إلى بيوتهم، فهم لا ينتبهون إلى أن الحياة لا تزال هنا، وإذا انتبهوا فلا يعنيهم أنهم ما زالوا على قيدها. والهواء الفاسد الذي يدخل رئاتهم بفعل العادة لا يمكن له أن يشعرهم بأن العالم عاد بهيجًا، وذلك، ببساطة، لأنه لم يعد من وجود لمثل هذا العالم.

في رواية نجيب محفوظ "الشحاذ"، يعيش عمر الحمزاوي، بطل الرواية، حياة هانئة. هو محام ناجح، بل ناجح جدًا، يحظى بثروة معتبرة، وأسرة سعيدة مستقرة، وسيارة فخمة، وصيت مهني ذائع. وفي مرة يقول لأحد موكليه: "تصور أن تكسب القضية اليوم وتمتلك الأرض ثم تستولي الحكومة عليها غدًا". فيجيب الموكل: "المهم أن نكسب القضية، ألسنا نعيش حياتنا ونحن نعلم أن الله سيأخذها؟".

هذه الجملة العادية، المكرورة إلى حد الابتذال، تتحول إلى سهم يخترق قلب الحمزاوي، صعقة تذهل عقله وتصيبه بالدوار، فيعود إلى بيته مثقلًا بالأسئلة: لماذا العمل والعناء والإنجاز إذا كان الموت نهاية كل شيء؟ لماذا نحيا إذن والموت يظللنا؟ لماذا نركض لاهثين في مضمار السبق إذا كان خطه الأخير هو الفناء؟

وسرعان ما تتحول الأسئلة إلى ديدان تنهش عقل الرجل، وتحوله إلى مريض بقلق الوجود. يهجر أسرته، ويودع حياته الهانئة، ويهيم على وجهه في تجارب خائبة ومحاولات بحث يائسة. وتتركه الرواية وهو على حافة الجنون، قدم في عالم الواقع وقدم في عالم هذياني من السديم.

عاش عمر الحمزاوي في زمن عادي (أواسط ستينات القرن الماضي). زمن أريد لنا أن نعتبره عظيمًا واستثنائيًا ولكن بتنا اليوم نعرف أنه عادي.. عادي لا أكثر. وعلى أي حال فلا يمكن للحمزاوي أن يعيش في زمننا العصيب هذا، ليس لأنه شخصية محفوظية يصعب نسخها أو تكرارها فحسب، بل لأن أسئلته الوجودية ستبدو مفتعلة، وأزمته النفسية برمتها ستغدو مثار سخرية.

فإذا كان الموت في زمنه قد حظي بكل هذه المهابة بحيث استطاع لخبطة حسابات ابن حياة ناجح، وأخرجه عن سكته المرسومة له بعناية.. إذا كان قد بدا شديد الوطأة بحيث بدت الحياة إزاءه هشة ورخوة وبلا وزن، مجرد ريشة في مهب الريح؛ فإن المعادلة انقلبت في أيامنا السوداء هذه، إذ تمكنت الحياة، بجنونها وعبثها الجامحين، من تطويع الموت وتحويله إلى واحدة من مفرداتها العادية، تفصيل من بين تفاصيلها الرتيبة، كابوس من بين كوابيسها الكثيرة، وربما يكون هو الكابوس الأقل مهابة، والأقل إثارة للقلق.

ويبدو أنها معادلة ذهبية: عندما تفقد الحياة بريقها، عندما تعجز عن إغواء الأحياء بمعنى ما، بجدوى ما، وعندما تتخلى عن رقتها الهشة وعن خفتها المثيرة للأسى.. فإن الموت، بالمقابل، يفقد هيبته وثقله.