22-مايو-2023
حرية الصحافة تونس

الأغلبية الساحقة من الموقوفين متهمون لآراء نقدية تم تقديمها (صورة ياسين القايدي/الأناضول)

 

لا يكاد يمر يوم واحد في تونس دون أخبار عن اعتقالات أو ملاحقات أمنية وقضائية، في بلد كان السقف العالي للحريات فيه ما يميّز تجربة انتقاله المتعثرة نحو الديمقراطية.

لا يكاد يمر يوم واحد في تونس دون أخبار عن اعتقالات أو ملاحقات أمنية وقضائية، في بلد كان السقف العالي للحريات فيه ما يميّز تجربة انتقاله المتعثرة

نحن أمام ملاحقات قضائية للصحفيين يتزايد عددها بشكل لافت، وكذلك لنشطاء ومدونين. وقبل ذلك، صُدمت الساحة السياسية والحقوقية في البلاد بسجن سياسيين وقضاة ونقابيين. لا شيء للوهلة الأولى يجمع كل هؤلاء، ما عدا توجه نقدي أو معارض، أو حتى غير متماه، لديهم إزاء السلطات الحالية في البلاد.

ويُلاحق جزء كبير من هؤلاء بسبب المرسوم 54 الذي كان محلّ رفض واسع واحتجاج متواصل منذ إصداره في الجريدة الرسمية، في سبتمبر/أيلول الماضي.

تذهب منظمات وأحزاب وشخصيات فاعلة في المشهد التونسي إلى توصيفه بـ"المرسوم سيئ الذكر"، وتؤكد أن النوايا وراء إصداره تتمثل في التضييق على الحريات عموماً، وخاصة حرية الرأي والصحافة والتعبير، وأن يكون سيفًا مسلطًا على رقاب المواطنين وكل من ينتقد السلطة وسياساتها، على عكس ما روجت له السلطات بأن الهدف منه يتمثل في مكافحة الأخبار الزائفة والإشاعات.

يُلاحق جزء كبير من النشطاء والصحفيين والسياسيين وفق المرسوم 54 الذي صار سيفًا مسلطًا على رقاب المواطنين وكل من ينتقد السلطة وسياساتها

في ذات الوقت، يكرر الرئيس التونسي قيس سعيّد، في كل كلماته المصورة وبياناته، أن لا أحد في "تونس الجديدة" حٌوكم لرأي أو موقف، فيما يبدو تضاربًا وانفصالًا تامًا بين الواقع وتصريحات المحامين وبيانات المساندة والوقفات التضامنية مع الملاحقين والمسجونين وبين رأس السلطة في تونس.

سيكون من السهل دحض الرواية الرسمية للرئيس أو أنصاره بمجرد العودة إلى قضايا شغلت الرأي العام التونسي مؤخرًا، ولو بدرجات متفاوتة، مثل إيقاف شابين بسبب أغنية "الفيل بابار" الساخرة التي تسببت في إزعاج للأجهزة الأمنية، أو أستاذ التعليم الثانوي في ولاية قفصة الملاحق بتهمة "ارتكاب أمر موحش ضد سيادة رئيس الجمهورية" بسبب تدويناته على فيسبوك، أو الصحافيين إلياس الغربي وهيثم المكي اللذين وجهت لهما دعوات للمثول أمام المحقق الأمني بسرعة قياسية بعد يومين فقط من مداخلة إذاعية.

في المقابل، لا مظاهر لمحاكمات للفساد في تونس، لا أموال مسترجعة، لا ملفات فساد مالي ضخمة تخص المعارضين والسياسيين مطروحة أمام القضاء كما رٌوج لذلك منذ سنوات. الأغلبية الساحقة من الموقوفين متهمون لآراء تم تقديمها حول مسار الرئيس التونسي إبان 25 جويلية/يوليو 2021، أو وشايات مجهولين عن خطط "تآمر مفترضة".

لا مظاهر لمحاكمات للفساد في تونس، لا أموال مسترجعة، لا ملفات فساد مالي ضخمة تخص المعارضين والسياسيين مطروحة أمام القضاء كما رٌوج لذلك منذ سنوات

يدفع هذا الواقع الجديد كثيرين إلى طرح السؤال: إلى متى؟

تجيبنا التجربة التاريخية في تونس بأن هذه الأجواء، وما يتبعها من محاكمات واعتقالات، عادة ما تدفع المجتمع نحو حالة من الخوف تسيطر عليه، فتخيط فمه وتحيله على بطالة نقدية.

تكبر تلك المخاوف في ظل الوضع الهش لعديد وسائل الإعلام التونسية، التي لم تبرهن عن أي تشبث بقيم الحرية والديمقراطية منذ اليوم الأول لما يُسمى بمسار الخامس والعشرين من جويلية/يوليو، وأصبح تحركها منحصرًا في دائرة السلطة ورواية الرئيس.

تخبرنا التجربة التاريخية في تونس بأن هذه الأجواء، وما يتبعها من محاكمات واعتقالات، عادة ما تدفع المجتمع نحو حالة من الخوف تسيطر عليه، فتخيط فمه وتحيله على بطالة نقدية

"لكن 2023 ليست تسعينيات القرن الماضي"، يصلك هذا الصوت لا ريب. لكنه مخاتل لا يحمل الحجج الكافية، على الأقل، حتى الآن. ما الذي يمنع 2023 لتكون مشابهة لعقود سابقة؟ تستعيد قوات الأمن في البلاد نفوذها الواسع وهو ما تقره منظمات حقوقية محلية ودولية. ويتم الاستثمار في حالة من الفرقة بين الشعب الواحد على قاعدة ضرورة المحاسبة لتنتشر حالة من الشماتة تغذيها الأجواء الشعبوية المهيمنة.

أكثر المتابعين للمشهد التونسي قد يجد نفسه في حرج شديد إذا أراد التكهن بمسار الأحداث في البلاد، وإن صار جليًا أن الرئيس لا ينوي التراجع عن منهجه في مقابل معارضة تعاني تشتتًا متواصلًا وتراجعًا شديدًا لشعبيتها وفتورًا في تحركاتها الاحتجاجية وغلقًا لمقراتها، إضافة إلى عمليات الإنهاك والاستهداف المستمرين عبر اعتقال أبرز قياداتها.

ما الذي يمنع 2023 لتكون مشابهة لعقود سابقة؟ تستعيد قوات الأمن في البلاد نفوذها الواسع ويتم الاستثمار في حالة من الفرقة بين الشعب الواحد لتنتشر حالة من الشماتة تغذيها الأجواء الشعبوية

يزيد الوضع سوءًا، التدهور الاقتصادي اللافت في البلاد، وهو ما قد يكون عنصر حسم، وفق تطوره، في استتباب الوضع الراهن من عدمه.