08-مايو-2023
مبادرة الإنقاذ الوطني في تونس

تحمل مبادرة الإنقاذ الوطني في تونس في صورتها الحالية وفي طياتها عناصر فشلها (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

مبادرة وطنية للإنقاذ في تونس.. يبدو الاسم فخمًا. أ ليس كذلك؟ لكن، أي إنقاذ هذا الذي لا يؤمن جزء من المتدخلين الفاعلين المفترضين فيه بوجود أزمة أو مشكل حتى؟ وأي مستقبل لمبادرة يرفضها مسبقًا الطرف المستهدف أساسًا منها، وهي ذات المبادرة التي تم تأجيل الإعلان عنها لأشهر مما يؤكد تعدد العوائق أمامها؟

يبدو أن فخامة الاسم "الإنقاذ" وعراقة الطرف الرئيسي وراء المبادرة لا تكفيان في السياق الحالي.

في البدء، لم تكن "مبادرة الإنقاذ الوطني"، كما أُطلق عليها، أولى مبادرات الاتحاد العام التونسي للشغل ـ كبرى النقابات والمنظمة الفاعلة في المشهد التونسي ـ سواء لحل الأزمة الراهنة في تونس أو الأزمات السابقة إبان ثورة 2011، وذلك بغض النظر عن المواقف المتباينة من هذه المبادرات ومن مخرجاتها.

منذ حوالي سنتين، لم يتردد اتحاد الشغل في تونس في التلويح بتزعم مبادرات/نقاشات لحل الخلافات المتصاعدة تدريجيًا في البلد

منذ حوالي سنتين، لم يتردد اتحاد الشغل في التلويح بتزعم مبادرات أو نقاشات لحل الخلافات المتصاعدة تدريجيًا في البلد. كان قياديو المنظمة النقابية الكبرى لا يفوّتون أي فرصة للتأكيد أن منظمتهم، منظمة فرحات حشاد، لن تترك البلاد تنزلق نحو الهاوية، دون إغفال التشديد على دور الرئيس قيس سعيّد في أي مبادرة للحل.

حتى في أكثر خطابات نور الدين الطبوبي، الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، حدة تجاه رئيس الجمهورية ومنظومة حكمه، حافظت المنظمة الشغيلة على "شعرة معاوية" عبر التذكير بموقفها الأولي المستبشر بقرارات سعيّد في 25 من يوليو 2021، وطرح تصوّرات إصلاحية لا تقصي الرئيس مثلما ترى جبهات المعارضة الرئيسية لسعيّد.

ورغم أن قيس سعيّد كان أيضًا ثابتًا في موقفه المقابل برفضه أي حوار أو مبادرة، ونكرانه المستمر لوجود أزمة مستفحلة في البلاد، إضافة إلى التصعيد التدريجي ضد نقابيين وضد أبرز معارضيه، قامت مبادرة "الإنقاذ الوطني" في تونس منذ البداية على ثنائية "عجيبة": إصرار على توجيه المبادرة لرأس السلطة في تونس وتجدد رفضه لها، وكانت هذه أولى العوائق أمامها.

قامت مبادرة "الإنقاذ الوطني" في تونس منذ البداية على ثنائية "عجيبة": إصرار على توجيه المبادرة لرأس السلطة الذي يرفضها كما يرفض فكرة وجود أزمة أصلًا

عند الغوص في محتوى "مبادرة الإنقاذ" المُعلن إلى حد الآن، تتضح عوائق أخرى فبعض نقاطها تُلاقي رفضًا حتى من جزء من المنظمين للمبادرة اللذين يرون أن سقفها عال وقد يجلب الويلات عليهم.

لا يُقال هذا في العلن طبعًا، لكن ذلك ما أكدته بعض المصادر لنا كما يمكن أن نستشفه من مواقف بعض القيادات من المنظمات الراعية لها، سواء من اتحاد الشغل أو باقي المنظمين وهم عمادة المحامين والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وهذا الخلاف الداخلي يٌساهم في مزيد تأخير الإعلان الرسمي عن نص المبادرة.

كانت الطريقة المٌتبعة أن تم اختيار شخصيات مستقلة لها الكفاءة في اختصاصاتها للعمل ضمن لجان مصغرة وصياغة ورقات سياسية واقتصادية واجتماعية هي لٌب المبادرة وذلك تحت إشراف 4 منظمات تونسية كبرى. أما موعد عرضها للعلن فقد تكررت على المسامع، منذ أشهر، الجملة التالية "ننتظر التوقيت المناسب"… لكن هذا التوقيت لم يتضح للآن.

عند الحديث عن "التوقيت المناسب" للإعلان عن المبادرة، كان الراعون لها في انتظار دائم لحدث أو مستجد قد يُضعف صلابة موقف الرئيس ويُغيّره، هكذا كانت الانتخابات التشريعية في دورتيها الأولى والثانية رهانًا أولاً. راهنت المنظمات على الضعف اللافت في نسبة المشاركة ودعت سعيّد لإيقاف المسار وعدم إجراء دورة ثانية والذهاب للحوار لكنه وجد مبررات للنسبة المتدنية وواصل مساره.

راهنت أيضًا على ما بلغه الوضع الاقتصادي والاجتماعي من تدهور، مبيّنة ضرورة الذهاب للحلول الجماعية وتجنب كارثة اقتصادية وكذلك تجنب ضغط صندوق النقد وما يسميها "إصلاحات"، لكن سعيّد تجاوزها أيضًا متجاهلاً أحيانًا وجود أزمة اقتصادية ومالية، أو معولًا على عناصر أخرى للحل كموضوع استرجاع الأموال المنهوبة بالخارج مثلًا وهو ما لم يٌفعل إلى حد الآن.

كان الراعون لمبادرة الإنقاذ الوطني في انتظار دائم لحدث أو مستجد قد يُضعف صلابة موقف الرئيس ويُغيّره أو يمهد الطريق أمام المبادرة على أرض الواقع

باختصار، كان منظمو المبادرة في بحث حثيث عن "التوقيت المناسب"، الذي قد يكون فيه هدفهم المباشر في وضعية ضعف، لكن كل الظروف لم تخدمهم وهو ما ساهم في تعطل الإعلان عنها بل يمكن الذهاب إلى فرضية موت المبادرة قبل الولادة حتى، تحت ضغوط الإيقافات المتعددة في صفوف النقابيين والسياسيين والنشطاء.

من جانب آخر، وعند مزيد التدقيق في محتواها، وفق المُعلن بحذر من بعض قيادات المنظمات، نجد "الدعوة لوضع حكومة جديدة تتضمن فريقًا كفيلًا بإخراج تونس من الأزمة وإلغاء هيئة الانتخابات الحالية وإعادة النظر في بعض فصول الدستور".

هنا تتضح من جديد المراوحة التي تقوم عليها المبادرة بين القبول والرفض لمسار سعيّد، فمن جانب تُلغي المبادرة عناصر وضعها سعيّد نفسه لتدعيم مساره وتوجهاته (رغم كونها العناصر الأضعف والتي لا يبدو سعيّد مترددًا في التضحية بها، وقد حصلت فعلًا إقالات لبعض الوزراء وتغييرات في هيئة الانتخابات بطرق مختلفة).

لكن المبادرة أيضًا تقدم اعترافًا ضمنيًا بمسار وقرارات سعيّد عبر تعاطيها مع دستوره الذي كتبه وعرضه على الاستفتاء في 25 يوليو الماضي من خلال دعوتها لتغيير بعض فصوله، على عكس المعارضة السياسية التي تكاد تُجمع على العودة لدستور 2014 والتعديل على أساسه.

منهجية "الإصلاح من داخل النظام ذاته" واضحة أيضًا من خلال ما تم تأكيده من القائمين على المبادرة من توجهها نحو الدعوة لتنقيح بعض مراسيم سعيّد الرئاسية التي طبعت السنتين الأخيرتين في مقابل إلغاء أخرى، وهي مراسم رئاسية تلاقي نقدًا ومعارضة واسعة من النشطاء والسياسيين في تونس.

تقوم مبادرة "الإنقاذ الوطني" في تونس على المراوحة بين القبول بعناصر في مسار سعيّد ورفض عناصر أخرى وعلى ما يُوصف بـ"الإصلاح" من داخل النظام ذاته

لا تخلو بعض النقاط المُعلن عنها بخصوص هذه المبادرة من غموض، كحديث المنظمين عن "الدعوة لهيئة انتخابات جديدة تشرف على مسار انتخابي نزيه وشفاف" لكن من سيعيّن هذه الهيئة الجديدة؟ وكيف يمكن ضمان نزاهتها؟ وهذا مثال لأسئلة عدة تُحيط بالمعطيات الأولى الصادرة عن نص المبادرة.

 

أصوات من تحت الركام

 

وقد نصّت المبادرة أيضاً على ضرورة الذهاب في انتخابات رئاسية سنة 2024 لكن سعيّد نفسه لم يؤكد بشكل واضح ومباشر وجود انتخابات رئاسية في تلك السنة كما هو متوقع، بالنظر لمرور 5 سنوات عن آخر انتخابات رئاسية حينها، ويُرجح متابعون للشأن التونسي أن يحافظ على الغموض في هذه المسألة حتى تبيّن مدى شعبيته مع قرب موعد الانتخابات.

يٌطرح أيضًا سؤال عن دور الأحزاب والمعارضة السياسية في كل هذا؟ الأكيد أن لا دور لها سيضاهي دور "الحوار الوطني" سنة 2013 تحت رعاية اتحاد الشغل ومنظمات أخرى والذي تٌوّج بنوبل للسلام، لكن قد لا يعني ذلك تغييبها تمامًا خاصة في مراحل متقدمة من المبادرة لو تم تفعيلها فعلاً وهو ما يبدو ظاهريًا ووفق المعطيات الراهنة صعبًا جدًا.

أما الأحزاب والفاعلين السياسيين المعارضين فقد رأوا في البداية في فكرة "مبادرة الإنقاذ الوطني" مخرجاً لمحاولاتهم الاحتجاجية الخالية من الوحدة والتأثير، ودفعوا نحو أن تكون هذه المبادرة الإطار الذي يضيف مشروعية لمقترحاتهم داخلياً وخارجيًا، وهو ما لم يحصل، إذ حرص الراعون للمبادرة على مسافة من المعارضة السياسية وإن اشتركوا معها في الكثير من مطالبها.

تقول قيادات من المنظمات الراعية للمبادرة إن هذه المسافة تخدم "مبادرة الإنقاذ الوطني" وتُخرجها من دائرة الرفض المباشر من قبل قيس سعيّد، لكنه رفضها على أرض الواقع حتى قبل توجيهها له وأرسل رسائل بذلك بشكل مباشر وغير مباشر وفي أكثر من مناسبة وهنا جددت قيادات سياسية الدعوة لتوجيه المبادرة نحوها.

تحمل مبادرة الإنقاذ الوطني في تونس في صورتها الحالية وفي طياتها عناصر فشلها لحجم التناقضات داخلها بحثًا عن توازنات شبه مستحيلة

تحمل مبادرة الإنقاذ الوطني في تونس في صورتها الحالية وفي طياتها عناصر فشلها لحجم التناقضات داخلها بحثًا عن توازنات شبه مستحيلة، حتى وإن سُوّقت كمحاولة للمراوحة بين الإصلاح والمحافظة على رأس السلطة المنتخب شعبيًا، كما أن طبيعة تطورات الأحداث تونسيًا لم تخدمها أمام مراهنتها على الطرف الرافض لكنه في الآن ذاته الطرف الفاعل والذي يكون الحديث عن مبادرة وحوار دونه أشبه بالسفسطة لا غير.

مبادرة الإنقاذ الوطني وكأنها وٌلدت ميتة لكنها على كل لا تزال تٌكابر، مكابرة التاريخ العريق لاتحاد الشغل الذي يرفض الهزيمة والتراجع، ومكابرة الأمل في حدوث معطى ما قد يُغيّر التوازنات على الأرض ويقلب موازين القوى.