غالبًا ما يكون التلاعب بالعقول ودفعها إلى التفكير بمنطق شاذ أمرًا سهلًا في المجتمعات المتأزمة، الأمر الذي يُنتج شكلًا من أشكال "العبودية الطوعية" حسب تسمية المفكر الفرنسي إيتيان دو لا بويسي (1530 – 1563)، حيث يظهر أناسٌ يظنون أن الحاكم (الرئيس حسب التسمية المعاصرة) هو كائنٌ فريد يتميز عن الجميع، وله الحق في فعل ما يريد. هكذا يظهر الحاكم المستبد الذي يقمع شعبه ويمارس استبداده ضدهم عبر السلطة التي منحوها له.
أما في المجتمعات التي تجاوزت فكرة "العبودية الطوعية"، فنجد كل شيء في مكانه الصحيح بشكل يدفعنا إلى التساؤل: إلى متى سنبقى مجتمعًا يغرق في الأزمات؟
في كتابه "خطاب حول العبودية الطوعية"، يتساءل إيتيان دو لا بويسي حول إشكالية أساسية لا تزال تؤرّق العقل الإنساني: كيف لجموع عديدة، آلاف وملايين الأشخاص، أن تخضع أمام فرد واحد؟ قد يبدو الجواب سهلًا في مكان ما، وهو أنّ السلطة التي يملكها هذا الفرد تمكّنه من إخضاعهم.
يتناول لا بويسي في كتابه إشكالية لا تزال تؤرق العقل الإنساني: كيف لجموع عديدة، آلاف وملايين الأشخاص، أن تخضع أمام فرد واحد؟
لكنّ تساؤل لا بويسي يبعث على التعمّق أكثر في مسألة تشكّل هذه السلطة، إذ كيف سيملك فرد ما السلطة إن لم يمنحها له أناسٌ محكومون بالخضوع؟ أو، بمعنىً آخر أدق كما يصفه الكاتب، متفرّقون فيما بينهم؟ يقول في هذا الشأن: "أريد فقط أن أستوعب كيف لعدد كثير من الرجال، كثير من المدن، وكثير من الأمم أن يتحمّلوا في بعض الأحيان مستبدًّا واحدًا لا يملك طاقة غير تلك التي يعطونها له، ولا يملك سلطة إضرارهم إلاّ إن هم أرادوا تحمّل ذلك، ولا يمكن له أن يؤذيهم إن هم لم يريدوا أن يعانوا منه (...) غير أنّه هكذا هو ضعف الرجال! محكومون بالخضوع، مُجبرون على التأجيل، متفرقون فيما بينهم".
لا يخفى علينا حال بلداننا التي تبدو متهافتة في أغلب مناحي الحياة، حيث لا تزال فكرة الحريّة شكلًا غريبًا، بل ومصطلحًا غير مفهوم في تفكير الفرد، وفي تمثّلاتها في المخيال الجمعي، لأنّه لم يتم تلقينها بشكل صحيح، بل تمّت تغطيتها بحجاب الخوف والجهل.
هكذا نشأت أجيال لم تربط حياتها مع الحرية، وصارت تنظّر لنقيضها بشكل واعٍ وغير واعٍ حتى تسرَّب هذا التقليد ليحتكر المجتمعات ويقيّد الأفكار التي تدعو لفض غشاء الجهل واتباع أفكار التنوير والإنسانية. ففي مجتمعاتنا يكفي ذكر كلمة الحرية حتى تتهاطل الأسئلة والهجمات لأن الحرية في مخيلة الأغلبية الساحقة مصطلح مرادف لـ"العري" أو "الفاحشة"، أو ما إلى ذلك من أفكار تقليدية باهتة لا تمت بصلة للموضوع، لكن تم من خلالها بناء حواجز مختلفة تمنع الإنسان العربي من ملامسة الحرية واستيعابها.
في الدول العربية ودول شمال أفريقيا، وبأشكال متفاوتة، لا تزال صورة الرئيس تثير الهيبة في النفوس؛ ننظر إليها بشكل غير واع وقاصر، ونراه الحاكم الجبّار الذي يملك الحكمة والرجاحة كي يسيّر ويقرّر كما يهوى له لأنّنا لم نستطع بناء دول ذات سيادة ومؤسسات تمنع سيطرة سلطة الأشخاص على بلدان بأكملها، فتنهب وتقتل وتسجن دون محاسبة. وهذا النسق ليس وليد الصدفة، بل هو تراكم لسياسات التجهيل والديكتاتوريات المتعاقبة، لكنّنا لا نستطيع إهمال دور الأفراد في تكريس هذا الاستبداد.
يطرح دو لا بوسي في شأن الحاكم مقاربة موضوعية تتمثّل في ثلاث صنوف من الحكام المستبدين الذين يحكمون المملكة (الدولة): من يحكم من خلال انتخاب الشعب له، أو عبر قوة السلاح، أو تواتر النسب. فأما الذين وصلوا إلى الحكم عبر الحروب فهذا مفهومٌ ومستوعب، وكذلك الذين تحصّلوا عليه من خلال النسب لأنّهم رضعوا الاستبداد منذ كانوا صغارًا.
أما الذي ينتخبه الشعب، فلن يقبل التنازل عن الحكم بعد وصوله إليه، بل وسيسعى إلى توريثه لأولاده من بعده، والأدهى أنه سيتجاوز الصنفين الآخرين في الشرور والقساوة. ولكي يحافظ على حكمه لن يجد وسيلة أفضل من تثبيت العبودية ومحو أفكار الحرية من النفوس. هكذا يحلّل لا بوسي الحاكم المستبد، ويُبرز فداحة تجربة المستبد الذي ينتخبه الشعب فيصير له تابعًا مخلصًا في شكل جديد من العبودية.
لقد كتب لا بوسي كتابه "خطاب حول العبودية الطوعية" وعينه على تشخيص فكرة العبودية، كيف تتشكّل ومن أين تستمدّ قوتها؟ وهذا الكتاب يعطي لنا صورة معبّرة عن مجتمعاتنا التي لم تستطع الخروج من خندق العبودية الطوعية والوصول إلى الحرية. وكما يقول: "من المستحيل أن يندم الإنسان لعدم تذوّقه الحرية لأنّه لم يعش تجربتها، والعكس بالنسبة للذي تذوّقها فهو لا يمكن أن يتصوّر الحياة بدونها". يبقى التساؤل المطروح في حالتنا هو: هل سيتمكن المجتمع العربي والمغاربي من الانعتاق من العبودية الطوعية؟
- الاقتباسات من ترجمة الكاتب.