20-سبتمبر-2023
روز اليوسف روز اليوسف

روز اليوسف (1897 ـ 1958)

لا بد أن تسبب مذكرات فاطمة اليوسف (1897 ـ 1958) الغيظ، وربما الأسى، لكل من يعمل في الصحافة العربية هذه الأيام.

فالمرأة، التي صار اسمها "روز اليوسف" ومنحت هذا الاسم لمجلة هي الأهم والأشهر في عالم الصحافة العربية، تتحدث عن عصرها كـ"زمن ضنك"، عانت فيه الأمرين لتصدر مجلة، ومن ثم صحيفة يومية، وتحافظ عليهما وسط العواصف السياسية والأهواء الاجتماعية المتقلبة.. وإذا بها (ودون أن تكون قد عرفت أو قصدت ذلك بالطبع) ترسم لنا صورة وردية، وتؤرخ لعصر ذهبي، فردوس مفقود، مشعلة حنيننا إليه.

ولقد استقدمت روز لمجلتها كتابًا من ذوي الأقلام السليطة: عباس محمود العقاد، محمد التابعي، محمود عزمي، كامل الشناوي، مصطفى أمين.. فراح هؤلاء يثقلون القول ضد كل المتنفذين، الإنجليز، والقصر الملكي، والحكومات المتعاقبة، وكان رسام الكاريكاتير الشهير صاروخان لا يوفر أكبر الرؤوس في رسوماته الساخرة، بل والجارحة في كثير من الأحيان.

لم يأت أحد ليجر روز اليوسف، مالكة "روز اليوسف" ورئيسة تحريرها، إلى ما وراء الشمس. ولم يهددها أحد بقطع رقبتها أو كسر يديها. وكل ما هنالك أن أعداءها راحوا يضيقون عليها في الإعلانات

وماذا كانت النتيجة؟ وكيف كان العقاب؟

لم يأت أحد ليجر روز اليوسف، مالكة "روز اليوسف" ورئيسة تحريرها، إلى ما وراء الشمس. ولم يهددها أحد بقطع رقبتها أو كسر يديها. وكل ما هنالك أن أعداءها راحوا يضيقون عليها في الإعلانات، وينشرون حولها وحول مجلتها الشائعات، مع اللجوء إلى مصادرة أعداد المجلة بين الفترة والأخرى. كل هذا وروز، وصحبها من كتاب المجلة، يقضون أوقاتهم في مقر عملهم، أو في المقاهي، يمرحون ويتسلون بالتنكيت على خصومهم الأقوياء والاستمتاع بإغاظتهم!

ولكن من أين للمرأة، ابنة ذلك الزمن، أن تعرف أن الصحافة سوف تعيش في ظل أزمنة كابوسية لاحقة؟ كيف لها أن تتوقع ما ستؤول إليه مهنتها بعد بضعة عقود، بحيث يبدو زمنها، للأجيال التالية، مثار حنين وحسد؟

إذًا لنقرأ مذكرات فاطمة اليوسف (روز) في سياق عصرها، ووفق حيثياته ومحدداته وتقاليده، وإلا نكون قد ظلمنا هذه الممثلة العظيمة، والتي صارت صحفية عظيمة حسب كل المقاييس، مقاييس زمانها ومقاييس زماننا كذلك.

ولا ننسى كم كان صعبًا على امرأة، في العشرينات من القرن العشرين، أن تخوض غمار الصحافة والسياسة، وأن تبقى الأنثى الوحيدة في وسط كله من الرجال، ولا شك أن كثيرًا منهم كانوا لا يزالون يملكون مفهومًا سلبيًا للغاية عن خروج النساء من بيوتهن ودخولهن إلى ميدان الشأن العام.

ثم من قال إن سيف الإفلاس الذي ظل، لفترة طويلة، مسلطًا فوق رأس المرأة الطموحة هو بالشيء اليسير؟

كانت فاطمة اليوسف ممثلة شاركت في فرق مسرحية عديدة ولعبت الكثير من الأدوار الناجحة، حتى وجدت من يلقبها بممثلة مصر الأولى، ولكنها اعتزلت التمثيل مبكرًا، ثم عادت إليه لفترة قصيرة، قبل أن تعتزله ثانية وإلى غير رجعة. وفي يوم كانت تجلس مع مجموعة من أصدقائها في محل للحلويات، فدار الحديث عن النقد الفني، النقد المسرحي تحديدًا، والذي كان يشهد، في معظمه، انحدارًا في المستوى، وما كان من النجمة المسرحية إلا أن هتفت مفاجئة صحبها: "ولم لا أصدر أنا مجلة تنشر النقد الرفيع الذي نطمح إليه؟!". واعتقد الرفاق أنه كلام ليل يمحوه النهار، ولكن روز كانت في اليوم التالي تقوم بجولة على ذوي الاختصاص لتجري معهم حساباتها، وتعرف منهم التفاصيل الضرورية الكفيلة بجعلها صاحبة مجلة، ولم يطل الأمر كثيرًا حتى جاء اليوم الذي تحول فيه الحلم إلى حقيقة (26 أكتوبر / تشرين الأول 1925)، وكم كانت كبيرة دهشة الموظف المختص بإصدار الترخيص عندما قالت له المرأة إنها اختارت اسمها اسمًا للمجلة: "روز اليوسف".

ولقد ولدت "روز اليوسف" مجلة كبيرة، فاستضافت أقلامًا شهيرة قدمت النقد الرفيع الذي أرادته صاحبتها، وقد انطوت على لمسات عصرية سبقت بها زميلاتها من الصحف والمجلات الأكبر عمرًا، سواء من حيث التبويب، أو الرسوم والصور، أو طرائق الكتابة. وجاءت النقلة الكبيرة عندما دخلت مجال السياسة بقوة، فما هي إلا شهور حتى صارت المنبر الأكثر تأثيرًا، بأرقام توزيع عالية.

ولأن فاطمة كانت وفدية الهوى، فسرعان ما صارت مجلتها لسان حزب الوفد الأكثر فصاحة، وصوته الأكثر ارتفاعًا. وإذا كان هذا قد جلب لها خصومًا فقد جلب لها أصدقاء أكثر، الشيء الذي شجعها على إطلاق جريدة يومية، وتحت الاسم نفسه: "روز اليوسف اليومية". وحققت اليومية ما حققته شقيقتها الأسبوعية من نجاح، وصار آلاف القراء ينتظرون الصباح ليتخاطفوا الجريدة ويقرؤوا النقد اللاذع والتحليل السياسي المحكم والآراء الذكية.. التي تصدر عن منبر حر، تقوده امرأة شجاعة ومثقفة وبعيدة عن أي شبهة.

ولكن الرياح بدأت تغير اتجاهها شيئًا فشيئًا، والسفينة المنطلقة بلا توقف راحت تترنح، بل وأوشكت على الغرق. لقد دب الخلاف بين روز وحزب الوفد، لا لشيء إلا لأن الصحفية، المعتزة بنفسها وبجريدتها، قد أبت أن تساير الوفد في حساباته التكتيكية ومواقفه البراغماتية، وبرأيها فإن ما يناسب حزبًا سياسيًا يسعى إلى الوصول لسدة الحكم، لا يناسب صحيفة مستقلة، يقوم رصيدها على ثقة القراء بثبات مواقفها ورسوخ مبادئها.

لدت "روز اليوسف" مجلة كبيرة، فاستضافت أقلامًا شهيرة قدمت النقد الرفيع الذي أرادته صاحبتها، وقد انطوت على لمسات عصرية سبقت بها زميلاتها من الصحف والمجلات الأكبر عمرًا

غير أن الوفد لم يتسامح مع هذه النزعة الاستقلالية فأعلن فصل روز اليوسف (الجريدة والمجلة) من دائرة أصدقائه، وراح يحرض جمهوره (وكان هو الحزب الأكثر شعبية على الإطلاق) على المطبوعتين. وهكذا تكاثر الخصوم: الوفد إلى جانب القصر والإنجليز وحكومات الأقليات.. واتفق هؤلاء جميعًا على تطويق الجريدة ونجحوا أخيرًا في إغلاقها، ثم استداروا إلى المجلة ليجهزوا عليها.

وهنا بدأت سيرة روز البطولية، فقد أقسمت على أن ترهن حياتها بحياة مجلتها. صمدت وحاربت. باعت كل متاع بيتها وجزءًا كبيرًا من ثيابها و(صيغتها)، واستدانت، ورهنت. ومضى وقت عليها كانت توزع يومها بين العمل في المجلة وبين الهروب من الدائنين. وكثرت القضايا في المحاكم وتوالت الحجوزات. وفي فقرة مؤثرة من مذكراتها، تقول إن أكثر ما آلمها هو ذلك اليوم الذي جاء المحضر إلى بيتها، بدعوى من أحد الدائنين، ليحجز على ثيابها الداخلية! في إشارة واضحة إلى تعمد الإهانة.

وثمة أمر آخر تسبب لها بالألم، فلقد تخلى عنها كتابها الذين كانت قد دافعت عنهم ببسالة، ورفضت المساومة عليهم، كما رفضت الحد من حريتهم.. تركها محمود عزمي الذي كانت روز قد رفضت طلب الوفد بإقالته لتعود المياه إلى مجاريها، ولم يكتف بالفرار عندما أحس بأن السفينة تغرق، بل راح يقاضي صديقته السابقة من أجل مستحقات مالية لا يستحقها. وكذلك فعل العقاد الذي كان قد وضع يده بيدها وعاهدها على البقاء معها مهما حصل، وإذا به يفر خلسة تاركًا من عاهدها وحيدة في محنتها. وقبل هؤلاء كان التابعي قد انسحب مصطحبًا معه مصطفى أمين وصاروخان وآخرين.

ورغم كل ذلك، نجحت روز وبقيت المجلة على قيد الحياة، ومع تغير الظروف السياسية، عاودت انطلاقتها لتصل إلى مرحلة ازدهار ثانية مديدة، بل ودائمة هذه المرة. هكذا حتى جاء إحسان عبد القدوس (ابن فاطمة اليوسف) ليرث عرش والدته ويقول لها ببساطة: آن لك أن تستريحي.

تبين المذكرات أن كاتبتها تتمتع بموهبة التحليل السياسي، والمراقبة الذكية للأحداث والتغيرات، فهي تقدم تحليلًا معمقًا لمسيرة حزب الوفد، عوامل صعوده، وأسباب هبوطه ومن ثم انقسامه وتشرذمه.

كما أنها تتمتع بنظرة فاحصة ودقيقة للناس حولها، أمزجتهم وطباعهم ودوافعهم العميقة، مع لمسة تفهم وتسامح، وميل إلى التفسير ومحاولة الفهم أكثر من التقييم وإصدار الأحكام.

ولهذا فقد جاءت مذكراتها أكبر من أن تكون مجرد يوميات لصحفية (أو ممثلة) تحكي سيرتها الشخصية، بل هي وثيقة تاريخية اجتماعية بالغة الأهمية.

اليوم لا تزال المجلة التي تحمل اسم روز اليوسف موجودة، فأي تكريم أكثر من هذا لامرأة خطر لها منذ مئة عام أن تصدر مجلة وهي محل حلويات؟!