17-سبتمبر-2023
الاسيرة المحررة عائشة عودة

الأسيرة المحررة عائشة عودة

يخطر على بالي دائمًا وأنا أفكّر في لحظة الكتابة عند النساء عمومًا بأنّها تُمثّل لحظة فارقة عن اللحظة التي قبلها، فتلك اللحظة التي تُمسك فيه المرأة قلمها وتذهب للنقد والتنظير والإبداع، وتُعبّر عن احتجاجها وتطلّعها الكبير لتحطيم بنى التمييز من حولها هي لحظة يُمكن وصفها بلحظة ذروة الوعي النسوي.

وإذا كان الوعي النسوي يعني شعور المرأة وإدراكها بمشكلة التمييز الواقعة عليها لكونها امرأة في الأساس، فإنّ لحظة الكتابة عندها تُمثّل ذروة هذا الوعي، لأنّها لحظة تتجّه فيها نحو إخراج شعورها وإدراكها بذلك التمييز الواقع عليها عبر طرق كتابة تحتجّ عليه وتستهدف تقويضه وإلغاؤه.

وفي السياقات الفلسطينية يُمكن اعتبار لحظة ما قبلَ الكتابة عند الأسيرة السابقة والمناضلة عائشة عودة لحظة وعي نسوي خالص تشكّل عندها، ولم يبلغ ذروته إلا في اللحظة التي تجرأت فيها على الإمساك بالقلم وعلى كتابة تجربتها في السجون الإسرائيلية والبوح بها بكلّ صِدق وشفافية وتجرّد.

إذا كان الوعي النسوي يعني شعور المرأة وإدراكها بمشكلة التمييز الواقعة عليها لكونها امرأة في الأساس، فإنّ لحظة الكتابة عندها تُمثّل ذروة هذا الوعي

إنّ عودة التي تحررت من السجون الإسرائيلية عام 1979 بعد قضائها 10 سنوات فيها، ذهبت بعد 25 عامًا على مرورها بتجربة الاعتقال إلى كتابة تلكَ التجربة في سيرة ذاتية- غيرية مكونة من جزئيْن؛ جزء أوّل عنونته بـ"أحلام بالحرية"، وجزء ثانٍ عنونته بـ"ثمنًا للشمس".

والمطالع لكتابيْ عودة يُلاحِظ أنّها قامت بنقل تجربتها السجنية فيهما بكلّ جرأة، حيثُ استخدمت لغة متوترة وحية، تمكّنت عبرها من جعل قارئها يعيش معها هذه التجربة بكلّ ما فيها من مشاهد عنيفة قاسية وألم نفسي، وعن طبيعة اللغة الأدبية الحية التي حرصَت على استخدامها في كتابيها تُورِد عودة: "لم أشأ إخراجها بلغتها الجافة التقريرية والتوثيقية، بل حلمت بكتابتها بلغة حية".

ليست اللغة الحية وحدها هي الملمَح الجمالي الوحيد الذي تتميّز به كتابة عودة البوحية والصريحة عن تجربتها في السجون الإسرائيلية، فهناك ملمَح جمالي آخر جاء من حقيقة وعيها بأوضاع المرأة في المجتمعات العربية عمومًا، والمجتمع الفلسطيني على وجه الخصوص، فهذا الوعي المترسّخ داخلها جعلَ كتابيها يَمتثلان أمام القراء، ويأتيان كعريضة علنية للاعتراض والاحتجاج على مسألة التمييز ضدّ المرأة، من المناطق الاجتماعية الأولى التي يبدأ فيها التفريق ين الولد والبنت وتفضيل الذكر على الأنثى، وصولًا إلى المجالات السياسية التي تُحرم فيها من حقّها في المشاركة السياسية، ومن المواقف الكثيرة التي تستذكرها عودة وتمّ فيها التمييز ضدها فقط لكونها بنتًا، محاولة أمها منعها من إكمال تعليمها خارج القرية، لأنها البنت الوحيدة التي ستتابع دراستها في رام الله.

من الملامح الجمالية الأخرى التي انضوت عليها كتابة عودة في روايتها لتجربتها السجنية، تلكَ الجرأة والوضوح الكبيريْن اللذيْن استخدمتهما في رواية تفاصيل الانتهاكات التي تعرضت لها في السجون الإسرائيلية أثناء التحقيق معها وبعده، فمما روته عودة عن تفصيلات التحقيق معها أنّ الكثير من الأسئلة التي وجهّت لها كانت متعلّقة بحياتها الجنسية بدلًا من السياسية، فقد سُئِلت مثلًا: "كم عدد الرجال الذين نمت معهم؟"، "أتريدين أن تقولي أنّكِ ما زلتِ عذراء؟".

ورغمَ أنّ عودة استخدمت عبارة مقتضبة لتروي حادثة اغتصابها بعصا في تلكَ السجون، وقالت فيها: "عزرائيل يحاول بالعصا اختراق رحمي"، إلا أنّه يُمكن اعتبار جرأتها وتطرقها إلى تلك الحادثة ولو بعبارة تحديًا حقيقيًا لقيود المجتمع الأبوي الموجودة ضمنه، وكأنّها في سردها لتلكَ الحادثة كانت ترغب بإعادة هندسة الثقافة الذكورية التي تحكم مجتمعها، عبر تأكيدها على أنّ الشرف السياسي أهم من الشرف الشخصي، وسعيها من أجل تغيير النظرة الاجتماعية للأسيرات الفلسطينيات، من نظرة تتبنى شعار "العرض قبل الأرض"، إلى نظرة تتبنى شعارًا آخر "الأرض قبلَ العرض"، وهو الشعار الذي تبنته فعلًا أجيال الثورة الفلسطينية منذ ثمانينيات القرن الفائت، وأصبح يُنظر من خلاله إلى الأرض باعتبارها الأولوية القصوى التي يجب الالتفات إليها، والتعامل معها كشرف فلسطيني جماعي ووحيد.

تجربة عودة في الكتابة السجنية هي تجربة فريدة من نوعها، فهي الوحيدة من بين العديد من الأسيرات الفلسطينيات التي امتلكت الجرأة والشجاعة وعبّرت عن تجربتها في السجون الإسرائيلية بأقصى ما امتلكته من لغة حية وواضحة وفاضحة، كلّ ذلك من أجل أن تؤكّد على انّ المرأة عليها أن تمتلكْ شرط الحرية في التعاطي مع هذه الممارسة الثقافية الصعبة (الكتابة)، لأنّ هذا فقط ما يجعل منها ممارسة محرّرة من الأغلال الخارجية ومتحرّرة من القيود الداخلية، لتُصبح في كلّيتها تعبيرًا عن وجود الأنثى في لحظة أخرى غير التي كانت عليها قبلها.