18-سبتمبر-2023
العلاقة بين المترجم والناشر

الشائع عن العلاقة بين المترجم والناشر في العالم العربي أنها علاقة إشكالية (الترا صوت)

العلاقة بين المترجم والناشر في العالم العربي هي علاقة إشكالية معقدة ومُحاطة بالكثير من التساؤلات التي تتشعب يومًا بعد آخر، لكنها تتمحور حول مواضيع ثابتة: تدخّل الناشر في عمل المترجم، والمقابل المادي المنخفض مقارنةً بحجم العمل، و المماطلة في تسديد المستحقات أو حتى عدم تسديدها.

إنها لذلك علاقة ملتبسة وشائكة تُحيل، كما هو شائع عنها، إلى وجود أزمة ثقة بين الطرفين. وفيما يلي أربع شهادات لمترجمين عرب يقدّمون من خلالها مقاربتهم الخاصة حول هذه المسألة.


عبد المقصود عبد الكريم: أول ما يفكر فيه الناشر هو تقليص حقوق المترجم

"العلاقة بين المترجم والناشر"، يبدو لي أنه عنوان شامل وطموح أكثر مما ينبغي، وبشكل يحول دون التعبير عنه بطريقة مقنعة في بضع فقرات، لأن أول سؤال يخطر على ذهني هنا، ببساطة، هو: أي مترجم وأي ناشر؟ المترجمون مختلفون بقدر اختلاف البشر، والناشرون أيضًا، لكنني سأحاول قدر المستطاع.

أذكر بدايةً بأن الترجمة عمل شاق ومسؤولية ثقيلة على من يعرف دورها ويقدّره. وبدايةً أيضًا، من المفترض أن الترجمة جسر بين ثقافات بلغات مختلفة، ومن المفترض أيضًا أن المترجم والناشر أهم عاملين في بناء هذا الجسر، والاستفادة منه بأفضل شكل، مع فرضية أخرى هي أنهما مهتمان بالفعل بنشر الثقافة في مجتمعهما وبمصلحة هذا المجتمع وتطوره، أي أنه من المفترض أن تكون العلاقة بينهما علاقة تعاون وتكامل وتوافق.

لكن ماذا نرى على أرض الواقع؟ نادرًا ما تتوفر الصورة التي رسمتها في الفقرة السابقة؛ إنها صورة مثالية نادرة مثل كل ما هو مثالي، لكنها قد توجد حين تتعاون دار نشر "محترمة" مع مترجم "محترم". والاحترام هنا يعني احترام كل منهما لدوره ولدور الطرف الآخر. وبطبيعة الحال، تكون العلاقة في أحسن الأحوال، لكن السائد في الحقيقة أمر آخر. 

مع دور النشر الحكومية، يصطدم المترجم بأسوأ أنواع البيروقراطية، مما يؤدي في بعض الأحيان إلى صدور الترجمة بعد سنوات، أو عدم صدورها (أتحدث من واقع خبرة شخصية). ومع دور النشر الخاصة، يكون اهتمام معظم الدور بتحقيق أعلى ربح، ولا بأس في ذلك إذا كان لا يؤذي الثقافة والمجتمع. وتحقيق أعلى ربح يتطلب بالطبع تقليص المصروفات، وأول ما يفكر فيه الناشر تقليص حقوق المترجم، سواء في المقابل المالي أو في استغلال حقوق الترجمة؛ ثم يفكر في كتاب يتناول موضوعًا رائجًا بصرف النظر عن قيمته؛ وهنا تأتي نقطة بالغة الأهمية، وهي البحث عن قديم سقطت حقوق ملكيته الفكرية بالتقادم، أي أن مؤلفه مر على موته أكثر من خمسين عامًا. 

وهنا تقع الكارثة. وكل هذه الأمور أدت بالطبع إلى ما نراه في سوق النشر، حيث تُنشر أعمال مترجمة في ترجمات بالغة السوء، وأخرى بالغة التفاهة!

  • كاتب ومترجم مصري. 

عبد المقصود عبد الكريم

حسني مليطات: التفاوض حول المستحقات من الأمور المُغيّبة بين الناشر والمترجم

في البداية، لا بدّ من شكر الناشرين الذين عملت وما زلت أعمل معهم. تتمثل علاقتي مع الناشرين بالاهتمام بطبيعة المادة التي أترجمها، ولأنني أترجمُ عن الإسبانية، فإنني أهتم بالنتاج الفكري والفلسفي أكثر. وبالتالي، فإن الحصول على موافقة ناشر عربي لترجمة كتاب ضمن هذا الإطار المعرفي ليس سهلًا، وحال وجود ناشر عربي يتبنى فكرة الكتاب، أطلب منه توفير "محرّر" و"مُراجع"، فكلاهما محور رئيسي لإخراج العمل المُترجم بصورة مناسبة للمتلقي العربي.

لكن مَنْ يُوفِّر هذا من الناشرين قليل جدًا، وهناك الكثير من الناشرين يكتفون بالمنتج المترجم مباشرة، دون تدقيق أو مراجعة لغوية حتّى، وهذا قد يساهم في إضعاف العمل المُترجم، وبالتالي خلق رؤية سلبية من المتلقي لدار الناشر، وإضعاف المترجم أيضًا، على اعتبار أنّ القُرّاء يُسلّمون القيم المعرفية التي يتضمنها الكتُاب المُترجم إلى المترجم نفسه. وفي هذه الحالة، يخسر الناشر والمترجم، وتضيع أفكار الكتاب، ومضامينه، دون الاستفادة منها. 

ومن الجوانب المهمة في العلاقة مع الناشرين، عدا عن توفير المحررين والمراجعين، التفاوض المادي بين الناشر والمترجم، فهو من القضايا المُغيّبة فعليًا بينهما، وربما يحدث هذا مع المترجمين الجدد، ولكنه موجود على أي حال، حيث يفرض الناشر في أغلب الأحيان سعرًا "محدّدًا"، وغير معقول، يلتزم به دون فتح أبواب التفاوض مع المترجم.

وفي حال رفض الأخير، يُعقّب بعض الناشرين بالقول: "هذا هو السعر الموجود، ودون ذلك، فلن تستمر عملية الترجمة". ورهن فعل الترجمة بحد التفاوض المادي يفتر من عزيمة المترجم للعمل مع هذا الناشر، وتقديم المقترحات الترجمية له، وبالتالي الخوض مرة أخرى في تجربة جديدة للتفاوض مع ناشرين آخرين. وهذا الكلام لا ينطبق على كل الناشرين، ولكنه موجود، ليس في العالم العربي فحسب، وإنما في مختلف دول العالم. 

ومن التجارب الجميلة مع بعض الناشرين "المُثقفين" تعقيبهم على مضمون النص الذي أترجمه، أول بأول، بطرح الآراء ومناقشة الأفكار، وهذا مهم في توثيق العلاقة بين: الناشر نفسه، والمترجم، والنص. وبالتالي هي علاقة تأسيسية لإخراج النص المُترجم بشكل رائع ومميز. ولذلك من المهم أن تتوثّق العلاقة بين الناشر والمترجم من خلال النقاشات الفكرية حول النص، للاستفادة من تجارب بعضهم البعض، وتطوير أساليبهم المتعددة.

  • كاتب ومترجم فلسطيني.

حسني مليطات

محمد عبد النبي: وجود أكثر من ترجمة لأدب بلدٍ أو لغة ما مسألة ضرورية

إذا استبعدتُ قليلًا حقيقة كوني مترجمًا، لوددتُ أن أنظر إلى هذه المسألة من منظور القارئ، ولعلَّ القراءة هي النشاط الأصلي الأوّل، بالنسبة إلي، وهي كذلك التي لولاها لما اجتمع الكاتب والمترجم والناشر على شيء، وهي أيضًا من المفترض أن تكون الهدف النهائي الذي يرجو الجميع تحقيقه بشكل أو بآخر؛ فالناشر يريد أن يبيع ما ينشر، والكاتب أو المترجم يرجو أن يكون عمله مقروءًا، والقارئ الحقيقي لا يمتعه شيء أكثر من قراءة كتاب جيد. 

من منظور القارئ إذًا، أودّ أن يبذل الناشر غاية جهده ليصلني الكتاب المتَرجم في أفضل صورة ممكنة، بداية من اختيار المترجم المناسب لموضوع الكتاب وحالته وأجوائه ولغته وأسلوب كاتبه. وهي مهمة تغيب عن بال معظم الناشرين، فكل كتاب لديهم يمكن أن يترجمه أي مترجم، وعدم التمييز هذا يضر أوَّل ما يضر بالمستهلك النهائي وهو القارئ، فضلًا عن سُمعة الناشر والمترجم. 

من منظور القارئ أيضًا، أتمنى أن يُمنَح المترجم وقته الكافي ليعمل على نصه بهدوء وتأنٍ، وهذا لن يتسنى له إلَّا مع وجود خطة نشر جيدة من قبل الناشر، وكذلك ضرورة أن يكون المقابل المادي جيدًا بحيث لا يضطر المترجم لترجمة من خمسة إلى سبعة عناوين في العام كما نرى مع بعض المترجمين. فحتى مع سرعة أدائهم وكفاءتهم العالية، لا بدَّ من وجود وقت للمراجعة والتحرير والتدقيق، لكنّ هذا يبدو مستحيلًا مع عجلة إنتاج لا تتوقف وتزداد سرعة مع تأزّم ظروف المترجم بوصفه فردًا في مجتمع مأزوم بالأساس. 

من منظور القارئ، مرة أخرى، أتمنى أن يكون هناك تنوّع أكبر في أسماء المترجمين المنتجين في السوق، فقد قرأنا قديمًا معظم أدب أمريكا اللاتينية بترجمة شخص واحد تقريبًا، وقد يكون مترجمًا عظيمًا لكن وجود أكثر من ترجمة بأكثر من مقاربة لأدب بلدٍ ما أو لغة ما مسألة ضرورية في ظني لتكوين وجهة نظر أفضل عن هذا الأدب. 

ومن وقت لآخر، يظهر مترجم في لغة ما ويتفق الجميع على الثقة فيه ويبدو هو في ذروة عطائه، فيتحوَّل أدب منطقة لغوية بكاملها إلى ملكية خاصية بهذا الاسم، أو على الأكثر لاسمين أو ثلاثة أسماء. التنوّع معناه وجود مترجمين من خلفيات أكاديمية ومعرفية مختلفة، ولديهم ميول جمالية وخيارات لغوية مختلفة. وعندئذٍ ما لن نشعر به عن نصوص كاتب أجنبي ما مع أحد المترجمين، قد يستطيع مترجم آخر اقتناصه بفضل المهارة أو الموهبة أو حتى المصادفات السعيدة. 

  • روائي ومترجم مصري. 

محمد عبد النبي

بهاء إيعالي: علاقتي مع الناشرين متأرجحة

قد يكون الحديث عن العلاقة بين المترجم والناشر حديثًا متشعّبًا، فهذه العلاقة لا يمكنني أن أوجزها بسرعةٍ بحكم أنّني لا أتعامل، ولن أتعامل طيلة حياتي، مع ناشر واحدٍ يمكنني أن أتحدّث عن علاقتي معه ببساطة، بل تعاملت وسأتعامل مع ناشرين كثر، وهذا بحدّ ذاته كافٍ لعدم وجود صيغةٍ واحدةٍ لهذه العلاقة، ليس فقط كمترجم، بل كشاعر أيضًا.

يتعامل المترجم مع الناشرين بمختلف طبائعهم: منهم من لا يردّ عليك أساسًا، ومنهم من لا تتوصّل وإيّاه إلى صيغة مشتركة للتعاون، ومنهم من تتواصل معه وترسل له مقترحاتك و... يختفي، ومنهم من تتعاون معه لمرّةٍ وتحلف بألّا تكرّرها، ومنهم من تجد الأريحيّة التامّة في التعامل معه وتقرّر الاستقرار. هؤلاء جميعهم تعاملت معهم، وكلّ واحدٍ منهم ترك لديّ الانطباع الذي يتركه عادةً لدى جميع المترجمين، اللهم إلّا.

لكن لو أردت الحديث عن الناشرين الذين تعاونت معهم فعليًّا، فمعظم هؤلاء كانوا من النوعيّة الخامسة، أي الناشرين الذين يقدّرون جهد المترجم ويشعرونه بأريحيّة التعامل، عدا عن أنّهم مستعدّون دائمًا لتبنّي مشاريع ترجمة أقوم بتقديمها ولو كانت غير ضامنة نجاحها تسويقيًّا. لكنّني أودّ أن أروي حكايتين مميّزتين في تعاملي مع الناشرين: 

الأولى كان بطلها ناشر، بالأحرى ليس ناشرًا بل وكيلًا أدبيًّا كما يقدّم نفسه، اتّصل بي عارضًا عليّ التعاون مع إحدى دور النشر، وقدّمنا الشروط لبعضنا، كانت شروطهم مجحفة بحقّي حسبما نقلها لي لكنّني كنتُ بحاجةٍ للمال وقتها، لعلّ أصعب الشروط كان المتعلّق بمدّة الانجاز: 3 أشهرٍ لكتابٍ من 320 صفحة.

المهم أنّني قبلت وأنجزت وسلّمت الكتاب واتفقنا على الثاني، وحينما حان وقت تقاضي مستحقّاتي أخذ يماطل في التسليم، لأنفجر عليه بعدها وأقوم بفسخ عقد الكتابين، لأكتشف فيما بعد أنّ هذا الوكيل كان يتقاضى ضعف المبلغ الذي يسلّمني إيّاه من الدار. وقتها تواصل معي الناشر شخصيًّا وحلّت الأمور، وأقصي ذاك الرجل من الدار.

أمّا القصّة الثانية فمختلفة تمامًا: تواصلتُ مع ناشرٍ من أجل التعاون ورحّب بالفكرة، وطلب منّي مقترحات، وبالفعل وجد نفسه متحمّسًا لها، لكن جائحة كورونا كانت قد أثّرت عليه ففضّل التريّث. هنا، وعقب الاحترام الذي أبداه لي، قرّرت أن أقدّم له كتابًا صغيرًا كهديّة. الجميل أنّه تعامل مع هذه الهديّة بكلّ احترافية، بحيث أنّه أرسل لي ملاحظات المحرّر لديه والتي استفدتُ منها كثيرًا في تجربتي، ولم يكتفِ بذلك، بل أرسل لي عقدًا يتضمّن مبلغًا رمزيًّا كعربون شكرٍ من جهة، وكتقديرٍ لجهدي في العمل على الكتاب من جهة أخرى.

إذًا علاقتي مع الناشرين متأرجحة تمامًا.

يقول لي بعض الأصدقاء بدافع المحبّة إنّني مظلوم، وأنّني لا أحظى بما يكفي من التقدير الذي يحظى به غيري إعلاميًّا وتعاملًا مع كبار الناشرين (كلمة كبار الناشرين إشكاليّة، لأنّ بعض الناشرين الذين تعاونت معهم أرى أنّ لديهم مشروعًا مميّزًا)، وذلك نظرًا لما أقدّمه من ترجماتٍ بشكلٍ مستمر.

لكن كلّ هذا لا يعنيني صراحةً، لأنّني لا زلتُ شابًا وأمامي الكثير في الترجمة، وأنا اليوم مستشارٌ أدبيّ في إحدى دور النشر (هكذا تقدير أجده كبيرًا مقارنةً بسنّي)؛ ناهيك عن أنّ مشروعي ليس ترجميًّا فحسب، فأنا وقبل عملي في الترجمة بدأت كشاعرٍ ولا زلتُ شاعرًا، واليوم أتّجه إلى السرد وقد تصدرُ أولى أعمالي السرديّة يومًا ما، وكذلك أصبحتُ أكتب باستمرار في "ضفة ثالثة"، بالتالي عملي في الترجمة هو جزءٌ من مشروعي، ومشروعي بكامله هو تطبيقٌ لما قالته لي الصديقة ريم غنايم ذات يوم: "إذا ضلّيتك بس تترجم، بتكون حمار".

  • شاعر ومترجم لبناني.

بهاء إيعالي