16-مارس-2021

علي شريعتي وعائلته بعد يوم من خروجه من السجن (ويكيبيديا)

لا يمكن سبر أغوار معرفتنا بالمؤلف بشكل تام عن طريق قراءة نتاجه وحواراته، فهناك دائمًا حلقة مفقودة تشعل فينا جذوة الفضول، للاطلاع على سيرته ومكاشفته من مختلف الجوانب، وإذا كانت ذات الكاتب أو المفكر، عبارة عن قلاع مسدودة أو أبواب مغلقة فإن محاولة فتحها تكون عن طريق ما يكتبه من مذكرات، أو رسائل، أو كتب للتعريف بذاته تأخذ ضمير المتكلم لتضعنا معه وجه لوجه؛ لذلك فإن كتب المذكرات والرسائل لها سوقها الذي لا يكسد؛ لأنها تقرأ لعدة دوافع أهمها الحب والفضول، والتوصل للمعرفة التامة بالشخصية واقتحام خصوصيتها.

إذا كانت ذات الكاتب أو المفكر، عبارة عن قلاع مسدودة أو أبواب مغلقة فإن محاولة فتحها تكون عن طريق ما يكتبه من مذكرات، أو رسائل

في هذا المنحى جاء كتاب "إلى يد عزيزتي بوران.. أيام الرماد في رسائل علي شريعتي" (درابين الكتب 2020، بترجمة حيدر نجف) والذي يكشف بدوره عن بعض خبّايا عالم الاجتماع الإيراني علي شريعتي، الذي أصبح منذُ أمد طويل ملكًا للعموم ولم يعد ثمة مبرر لإخفاء خصوصياته كما تقول ابنته سوسن شريعتي في المقدمة.

اقرأ/ي أيضًا: فكر علي شريعتي.. أدوار الضعف والقوة

يضم الكتاب تسعة وعشرين رسالة، مع ملحق للرسائل المكتوبة بخط يده وصور نادرة تظهر لأول مرة.

هذه الرسائل تمكّننا من الولوج إلى عالم شريعتي وتظهر لنا الجبل الغاطس في شخصيته، الرسائل التي جاءت من طرف واحد بينت لنا كمية الوجع الذي يحمله شريعتي فجاءت رسائله ساخطة معاتبة بسبب عدم وصول الى الردود على رسائله، خصوصًا من طرف زوجته بوران، "ماذا افعلُ يا پوران، حتى لو كان المرءُ في صلابة نابليون لبقيَ عاجزًا أمام المرأة.. المرأة التي يحبها". فهو في هذه الرسائل طالب جامعي تزوج توًا من زميلته في كلية الآداب بوران شريعت رضوي والتي توفيت في مطلع عام 2019، عن عمر ناهز الـ 84 عامًا، وكانت تترأس شريعت رضوي مؤسسة شريعتي الثقافية كما إنها ألفت عام 2007 كتابًا حول شريعتي تحت عنوان "أطروحة حياة".

هذا الدور الذي لعبته بوران شريعت تنبأ به زوجها علي شريعتي في رسالته الأولى: "وفي مرضي الأخير تشغل الأطفال بشيء آخر، وبعد رحيلي ترتّب أعمالي وآثاري وتنشرها... بوران تعني أنني أعيش." ص 16.

يبدأ شريعتي أغلب رسائله بنص شعِري ويختمها كذلك كما أنَّ رسائله بينت لنا انه كان بصدد كتابة ديوان شعري يهديه الى زوجته كما بين مقدار عشقه للشعر الحديث، وسماعه للأغاني عبر عبر الأسطوانات التي كانت ترسلها اليه بوران في محل إقامته في فرنسا لغرض إكمال الدراسة في جامعة السوربون، خلال الفترة 1959 – 1960.

تحكي رسائل شريعتي عن ألم عميق يحفر في روحه ممتزجًا بندم جراء المعناة التي صاحبة مسيرته النضالية أبان حكم الشاه محمد رضا بهلوي، من مراقبة وسجن وتعذيب، وأخيرًا النفي إلى الخارج يقول شريعتي "كنتُ أسلكُ طريقًا لا يفضي إلّا لأمرين: الموت والشهرة... حين أُطلق سراحي في طهران كان كلُّ أصدقائي قد تركوني خوفًا. بل ولم يكن أحد مستعدًا للتعاون معي... ومنذ ذلك الحين شعرتُ أن الطريق مسدود حتى أمام الجدّ والكفاح... لم أعد أجد ذريعة لحياتي.. لم أجد ملجأ سوى تدخين السجائر، والغرق في الأخيلة، وقراءة الكتب عبثًا".

تحكي رسائل شريعتي عن ألم عميق يحفر في روحه ممتزجًا بندم جراء المعناة التي صاحبة مسيرته النضالية أبان حكم الشاه محمد رضا بهلوي

 بعد ذلك يقرر علي شريعتي كمّا تظهر لنا رسائله طي صفحة الماضي بندم حينما تدخل بوران شريعتي حياته وتتحول إلى كل كيانه كما يعبّر: "مسحت عن وجهي أتربة السنين، وعصفت بي كالإعصار، وصنعت منّي إنسانًا آخر، وبثت فيّ الأمل بأن استطيع أن أعيش إلى جانبها حياةً ناعمة مترعة بشهد الصداقة بدلَ مكابدة مصيري الغامض المتوحّش على ضفاف المتوسط بعيدًا عن وطني، لقد جعلتني متفائلًا آملًا بأن استطيع بدلَ إنهاء الذات بالتخطيط يومًا ما لإشعال حرائق، والقيام بأعمال تخريب، والخروج في مظاهرات واعتصامات ونشر الكتب والبيانات ، والمشاركة في تنظيمات سرية ومنظمات باطنية مواجهة التعذيب في يوم آخر داخل الزنازين والسجون والاستسلام لمصير مجهول، أستطيع بدل كل ذلك أن أكدّ واعمل من اجل شراء سيارة شخصية، وأفكّر في تزيين وتجميل الحدائق واعداد ديكورات ومناظر لها، وأن أستيقظ من النوم فزعًا أوقات الصباح على صراخ العيال".

اقرأ/ي أيضًا: نهاية الشيطان الأكبر

وفي رسالته السادسة يصف شريعتي مدينة باريس ورؤيته للحياة القاسية هناك واصفًا توحده واغترابه "المدينة هنا جميلة لكنها وحشية باردة وبلا طعم. النساءُ تحوّلن إلى إوزات، توجد فتيات أجمل من بريجيت باردو، لكنهن أرخص من علبة سجائر، كلهنّ شهوة ومكياج وعدم وفاء وتعاسة وابتعاد عن الحقيقة.. أية ويلات وجرائم جرتها الحرب؟! على كل حال لا يبدو رجالهم ولا نساؤهم ممكني المعاشرة.. الابتسامات ظاهرية.. حضارتهم وتربيتهم محدودة فقط بطريقة تعاملهم والأتكيت المصطنع الظاهري. لا أثر فيهم لتلك الحالات الشرقية من المحبّة العميقة العارمة"

وفي رسالته الرابعة والعشرون يصف يتكلم شريعتي عن وضع الزواج في بلاده وقتذاك وكيف أنه يحصل دون خبرة ومعرفة وانسجام روحي واخلاقي بسبب عادت وتقاليد المجتمع الصارمة، ليكون مصيره الفشل "الوضع الذي عليه الزواج في بلادنا غالبًا ما تأتي الزيجات فاشلة، وإذا لم ينتهِ الأمر بالزوجين إلى الطلاق فسيكونا ممتعضين على الأقل، وإنّ لم يكونا ممتعضين فإنهما لا يشعران بسعادة كبيرة في زواجهما في أقل التقادير بل يعملان بالمدارة والمصانعة".

وفي رسالته التاسعة والعشرون والأخيرة، جاءت رسالة علي شريعتي بمشاعر متناقضة ومختلطة اتجاه زوجته بوران شريعتي وكأنها جاءت محاكية لفلسفة سورين كيركجارد في الزواج " تزوج، وسوف تندم؛ لا تتزوج، سوف تندم أيضًا؛ تزوج أو لا تتزوج، ستندم في كلا الحالتين". يقول شريعتي في رسالته: "بوران يا روحي العزيزة الحنونة السيئة الأخلاق الطيبة القلب، السيئة الإنفاق البخيلة... الصالحة الرفيقة السيئة الإلهية الذات الشيطانية الصراخ، مُفشية الأمل باعثة اليأس.. جامعة الضدين رافعة النقيضين.."، ويختمها شريعتي بعبارة "لا أطيقُكِ ولا أطيقُ العالمَ بدونكِ".

 

اقرأ/ي أيضًا:

إيران المعاصرة في 4 كتب

إيران.. "إمبرياليَّة" الوليّ الفقيه