02-يونيو-2021

تفصيل من مبنى المسجد الأزرق في تبريز ​(Getty)

1

كان يمكنُ لرواية "المنذور" (الملتقى الثقافي اللبناني 2020) للشّاعر والرّوائي اللبناني فضل مخدّر أن تنتهي بفصلٍ أخير هو فصلُ "المرايا" الذي تختمهُ حميدة برسم بورتريهات شعريّة خالصة لأشخاص الرّواية. بدأت برسم صورةٍ أو أكثر لنفسها كعاشقة وشاعرة أنسيّة تكتبُ قصائد الحبّ لـ"زبيب" حتّى ساعة موته، وصورة لـ"يمامة" العاشقة الجنيّة لـ"زبيب" التي تموتُ في وادي الجنّ من شدّة عشقها. وبورتريه شعري للمنذور نفسه "زبيب" أو الممسوس الّذي يرى وهو في قريته الجنوبيّة "الشرقيّة" رؤيا عن وليّ اسمه "النبي جليل" يطلبُ منهُ أن يبني لهُ مقامًا فوق قبره ومقامين لأخويه ويرشدهُ لجرة ذهب في زاوية القبر وعلامة أنّه يموتُ في آخر ليلة إنجاز الوصيّة، ويُدفن في زاويةٍ من المقام.

الرواية فنٌ حديثٌ بلْ مُعاصرٌ على الرّغم منْ أنّ القصّ قديمٌ. لكنّ الروايات الكُبرى هي تقنياتٌ روائيّة وعوالمُ حديثة

"زبيب" شخصٌ بين الهائم والحالم فيه خفّة ويحبُّ النّجوم، عاشقٌ عذريٌّ لاثنتين جنيّة وإنسية ويمكن أن تأتي صورته كمجنون بني عامر كما لو اسمه "قيس" أو كحالم مشتّت ممسوسٍ بالجنّ. ولهُ أيضًا علامات رسوليّة فهو يتيمٌ وفقيرٌ يعتكفُ في عرزال، (كأنه غارٌ للتأمل) ويعاشرُ صخرة الوادي والحقل وهو موصول من طرفين بالتّراب وبالسّماء كما يُنكره بعضُ قومه.

اقرأ/ي أيضًا: سناء عون وقصة "دراجة مفككة".. إمساك الحدث الصغير من مركزه

بورتريه للشّيخ "عبد الجليل" وهو صديق "المنذور" بل عقله وضميره. يؤمنُ بأن العبادة والدّين في خدمة الإنسان وأنّ الربّ ليس بعيدًا عن البشر، وهو كالمنذور عاشقٌ للتأمُّل في النّجوم وحادبٌ على العشّاق. ويمكنُ أن تضاف في مرايا النهاية صورٌ شعريّة أخرى لصالح وجمانة ومنصور وملك الجنّ.

هذا فصلٌ متخيّلٌ جديدٌ لم يوجد في الرواية. والحالُ أنني كنتُ قد قرأتها مخطوطةً للمرّة الأولى ثمّ منشورة معدّلة للمرّة الثّانية فقد جرتْ كتابتها مرّتين. ثمّة روائيّون يكتبون الرّواية ثلاث وأربع مرّات بخاصّة تلك الرّوايات المركّبة الخصبة حيثُ الرّواية تضمُّ حكاياتٍ مُتوازية كما في "المنذور" والحكاياتُ في الرّواية أملتْ على الرّاوي أسلوب التّقطيع من خلال كتابةٍ مقطعيّةٍ منْ صفحتين أو ثلاث، والسّردُ اللّاهثُ وتقنيّةُ العود في الزمن والسُّلالة. أثناء السّرد يعودُ زبيب وحميدة في الزّمن كلٌّ إلى طفولته "retro" وتقنيّة الحكاية في الرّواية وهذا التفريعُ بمقدار ما هو خصبٌ فإنّه يطرحُ مشكلة النقطة الأخيرة الّتي تختمُ الحكايات جميعًا. هذه النقطةُ تبدو ضائعةً برغم وضع المنذور لها من خلال الموت الّذي ينتظرهُ بعد إتمام بناء المقام. لكنّ الرّاوي الّذي ختم بقصيدةٍ لحميدة عاد ففتح باب الرّواية باستلحاقٍ جعل عنوانه "القصّة لم تنتهي بعد" ما يجعلُ الرّواية غير مكتملةٍ وقابلة للاستزادة.

هكذا تكونُ القصيدةُ أيضًا والفنُّ هو شروعٌ في الفنّ، كلّ فنٍّ غير مُكتمل.

2

الرواية فنٌ حديثٌ بلْ مُعاصرٌ على الرّغم منْ أنّ القصّ قديمٌ. لكنّ الروايات الكُبرى مثل "عوليس" لجيمس جويس و"مائة عام من العزلة" لماركيز و"أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ هي تقنياتٌ روائيّة وعوالمُ حديثة. منْ باب القصّ أيضًا ما جاء في القرآن الكريم من قصص بعضها مُفصّلٌ كقصّة يوسُف وبعضُها مُقتضب ملغّز كقصّة سُليمان وقدْ جاءت موجزة في تسع كلمات "ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدًا ثم أناب" (سورة ص الآية 34) وهي مدهشة. هنا المستورُ من القصّة أكثر من المكشوف بكثير. وهي قصّة أسئلة وإشارات غائبة، فما هي الفتنةُ وما هو الكرسيُّ وما هو الجسدُ الملقى على الكرسيّ، ثمّ كيف أناب سُليمان.

 

وقد تسلّلت من فجوات النّص تكهُّنات وأقاويل منْ بينها ما سمّي بالإسرائيليّات، فبمقدار ما تكونُ القصّة رمزيةٌ وملغّزةٌ تكونُ فسحةُ التأويل واسعة. وهذا ما انتبهتْ لهُ الرّواية الحديثةُ في تقنيّات اللّعب بالزّمن والاسترجاع والتفريع السُّلاليّ والاستيهام والمزج بين الواقع والحُلُم وأساليب السّرد منْ تذكُّر أو توهُّمٍ، وهناك أيضًا السّارد العليمُ والسّارد الغائبُ، وهناك فجواتُ السّرد وخلط البداية والنهاية إلخ...

3

في رواية " المنذور" ماهي الرُّوح الروائيّة؟ نسألُ ونُجيبُ: جزءٌ أساسيٌّ منْ رواية المنذور هو جزءٌ فانتازيٌّ، مزيجٌ منْ حُلمٍ وأسطورة وبين الخرافة والنبوءة يتسلّلُ الشّعرُ وهلوساتُ الجنّ والإيمان والأولياء وعشق الجنيّات.

جزءٌ أساسيٌّ منْ رواية المنذور هو جزءٌ فانتازيٌّ، مزيجٌ منْ حُلمٍ وأسطورة، وبين الخرافة والنبوءة يتسلّلُ الشّعرُ وهلوساتُ الجنّ والإيمان والأولياء وعشق الجنيّات

اقرأ/ي أيضًا: رفقةُ القارئ بحثًا عن النّص المفتوح

البطلُ الأساسيُّ للرّواية "زبيب" شخصٌ قرويٌّ بسيطٌ ممسوسٌ يظهرُ لهُ الجنُّ وتحبُّهُ جنيّةٌ ويرى أحلامًا عجائبيّة، والشيخ كعقلٍ دينيّ لا يستطيع أن ينفي وجود الجنّ لكنّه يُؤنسنُ المعتقد الدينيّ. والروايةُ تجري وقائعها في قرية جنوبيّة وفيها صفحاتٌ معدودةٌ من تاريخها وأحوالها لكنّها تنتقلُ إلى المغرب وبما يُشبهُ "ألف ليلة وليلة" يصفُ المغربيُّ لزبي والشيخ قرية الجنّ وملكهم وعاداتهم، كما أنّ يمامة حبيبة زبيب هي جنيّة، إذًا هذه هي الفانتازيا الروائيّة تعتمدُ على الخارق والسّحري في الحبكة الروائيّة.

كيمياء روائيّة من أساطير وخرافات وقائع وأحلام.

قال الحكواتيّ: هناك عالمٌ سفليٌّ والروايةُ تمتحُ منْ هذا النّبع السُّفلي الذي لا ينضبْ. طبعًا أساسهُ المخيّلةُ، بتعبيرٍ أوضح شطحُ المخيّلة فالرّواية كما الشّعر كما الفنّ هي أوّلًا وأخيرًا عمل المخيّلة، طبعًا الفن هنا هو كذبٌ خلّاق. الشّعرُ كذبٌ خلّاق والرواية تلفيقٌ خلّاق للمخيّلة لعلّ هذا ما سمّي في أميركا اللاتينيّة بالواقعيّة السّحريّة. قالوا لوالد غارسيا ماركيز أنّ ابنهُ يكتبُ الرّوايات قال: أنا أعرفهُ يكذبُ من الصّغر. لكنّه الخيالُ الأجملُ من الواقع.

 

اقرأ/ي أيضًا:

كتاب راشد عيسى "سوريو الباصات الخضر".. انحياز حاسم لضحايا الجريمة الكاملة

ريكاردو بيجليا في "القارئ الأخير".. يكتب ليقرأ المعنى منزاحًا في مكانٍ آخر