25-أبريل-2021

كتاب "سوريو الباصات الخضر"

يقدم راشد عيسى لكتابه "سوريو الباصات الخضر" (دار موزاييك 2020) بنص يبرر فيه ارتباطه بقضية السوريين وهو الفلسطيني المولود في سوريا التي عاش فيها الشطر الأكبر من سنينه. الارتباط بقضية السوريين في تغريبتهم الطويلة مع النظام الاستبدادي يبدو له بهذا المعنى بديهيًا بسبب الارتباط المعقد والمزمن بين الفلسطينيين- السوريين والسوريين، حيث يخضع الشعبان للشروط المجحفة نفسها، ويكاد يكون التفريق بينهما في التعرض للقمع مستحيلًا على المستويات كافة.

الانحياز للضحية في هذه المعمعة الدموية، ليس أمرًا يمكن الانصراف عنه أو تجاهله، واستكمال العيش كما لو أن المجزرة لم تحدث

مع ذلك، ثمة قضية أخرى تغلي في دم الكاتب وتفور إلى السطح كلما لاحت لها فرصة وهي القضية الفلسطينية، التي جعلته كغيره من مئات آلاف الفلسطينيين لاجئًا، بلا أرض ولا سكن. وأكثر ما يضني في هذا الانتماء واقع أن الفلسطيني محكوم، إذا ما أنصفه المستقبل، أن يتخلى عن كل ما عايشه وعاينه ليعود إلى أرض لا صلة مباشرة بينه وبينها. وعليه أن يبدأ من جديد رحلة التيه التي تفرضها بدايات تشكل الأوطان والدول على كل أهلها.

اقرأ/ي أيضًا: رواية "ملتقى البحرين".. المُتخيَّل الملموس

لكن نص التقديم هذا سرعان ما نفقد أثره في ثنايا الكتاب، وعلينا أن ننتظر النصوص الأخيرة في الكتاب لنستعيد تلمس ملامح فلسطينية راشد عيسى في بضعة نصوص. متن الكتاب هو سوري بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. وفي هذا المتن يدافع راشد عن ضحايا النظام السوري بصورة أساسية، ويتبنى خطابهم لو تسنى لهم أن ينطقوا بخطاب ما، أو لنقل أنه يصنع لهم خطابًا يليق بحجم مأساتهم. وهذا لا يعني أنه يقدم خطابًا متكاملًا يغني عن كل ما يليه أو يزامنه، لكنه خطاب لا غنى عنه بأي حال من الأحوال. فالانحياز للضحية في هذه المعمعة الدموية، ليس أمرًا يمكن الانصراف عنه أو تجاهله، واستكمال العيش كما لو أن المجزرة لم تحدث.

صانع الخطاب في حالتنا هذه هو أيضًا متحدر من مجزرة إذا جاز لنا التعبير. وعليه، فإن المرء يغالب وهو يقرأ الكتاب رغبته بالتلصص على فلسطينية الكاتب ومحاولة استقراء ملامحها بين السطور. ذلك أن التحدر من مجزرة أمر لا يمكن للمرء تجاهله حتى لو كان يشهد ويعاين مجزرة أخرى.

أجرؤ على القول إن راشد عيسى ينجح في إخفاء نسبه المتحدر من المجزرة الفلسطينية وهو يصنع خطابًا للضحية السورية. وما يعينه على هذا الإخفاء، يذكره في نص التقديم، حين يؤكد أن الفلسطينيين السوريين هم أيضًا من ضحايا النظام ونزلاء سجونه مثلهم مثل السوريين المعارضين. وتاليًا فإن الكتابة، تشترط بكاتبها أن يرقى إلى مستوى الناجين، ويتنكب مهمة قص حكايات الذين لم ينجوا. وفي هذه الحال، سواء كان الذين لم ينجوا سوريين أو فلسطينيين أو كان جلادهم إسرائيليًا أو سوريًا، فإن النتيجة هي نفسها. على الكاتب، الذي نجا، على أي وجه من وجوه النجاة، أن يقص حكايات هؤلاء ويدافع عن مصائرهم ويساجل مستسهلي إراقة الدم باسم الأفكار الكبيرة، ويقاتل دفاعًا عن الناس في مواجهة القضايا الكبرى والأيديولوجيات.

على الكاتب أن يقص حكايات هؤلاء ويدافع عن مصائرهم ويساجل مستسهلي إراقة الدم باسم الأفكار الكبيرة

كما لو أن راشد عيسى وهو يكتب عن الضحية السوري يدرك جيدًا، أن قضيته الأم تستلزم أيضًا الدفاع عن الناس في مواجهة القضايا الكبرى التي تطوق الفلسطينيين من كل حدب وصوب، ليعيدهم ناسًا تم التنكيل بهم، واستووا ضحايا نموذجيين ارتكبت بحقهم جريمة كاملة.

اقرأ/ي أيضًا: نقاد القلوب الطيبة

لهذا لا ينزلق راشد عيسى إلى الدفاع عن العنف المواجه لعنف النظام السوري، ورغم أنه لا يحمل صراحة لواء صناعة خطاب للضحايا الذين سقطوا في الجهة الأخرى من المعادلة دفاعًا عن النظام، إلا أنه يترك الباب مفتوحًا على مصراعيه لإخراج هؤلاء من أيديولوجيا البطولة والانتصارات إلى موقع الضحية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

هشاشات الشِّعر مُركّبة

قصائد "تكرار أخطاء الأولين": الزمن هو السؤال