23-مايو-2021

لوحة لـ محمد إحصائي/ إيران

لعل تاريخ الكتابة، في معظمه الغالب عليه، هو تاريخ الكاتب. فحين يُذكر كتاب "عهد الهوى" يقرن بأوفيد، وحين يذكر كتاب "الجمهورية" يقرن بأفلاطون، وحين تذكر "الإلياذة" تقرن بهوميروس، ولا مجال لذكر "البخلاء" من دون الجاحظ... وهكذا. فلم يكن ثمة من مجال، قبل تولّد الحداثة وتباشيرها، وبعد ذلك مدارسها من ألسنية وبنيوية وتفكيكية، وصولًا لما بعد الحداثة، من إعطاء اولوية للنص بذاته. وبطبيعة الأمر، لم يكن للقارئ من حضور يذكر، فمركزية المؤلف طمست سائر عناصر العمل الكتابي، وهمّشتها.

والمدارس النقدية الحديثة كسرت هذا النظام القديم، وتركز اهتمام الألسنية والبنيوية على لغة النص وبنيته وتراتبيته، وعَزَلَتْه عن ذاتية كاتبه، وعن تاريخه، فأسّست بذلك لما يسمى وصف النص أو سيرته، بمعزل عن وصف الكاتب وسيرته. فكأنما، بذلك، انفصلت مركبة الكتابة عن ربّانها، وانطلقت لتسبح بمفردها في فضاء الحياة.

الحفر في النص هو بمثابة البحث عن "فجوات الكلام" في هذا النص. وهي فجوات مستورة، وسرية، وغائرة في لاوعي اللغة

والتركيز على النص ولّد آليات وتقنيات جديدة لقراءته، والتعرّف عليه. "فالمتتاليات الكلامية"، كما يسميها الدكتور نبيل أيوب في كتابه "الطرائق إلى نص القارئ المختلف"، هي اختلافات صوتية ودلالية في آن، مثلما هي ترابطية واستبدالية في طبقات الكلام كما يرى فوكو. والحفر في النص هو بمثابة البحث عن "فجوات الكلام" في هذا النص. وهي فجوات مستورة، وسرية، وغائرة في لاوعي اللغة، حيث أن لاوعي اللغة، بحسب "لاكان"، مطابق للاوعي النفسي الذي درسه فرويد.

اقرأ/ي أيضًا: تُرجم قديمًا: تجربتي في الأدب والحياة

وقد أمسك "لاكان" بهذا الشبه بين لاوعي اللغة في النص واللاوعي النفسي، مثلما كان "فوكو" أمسك بالشبه بين اللغة والجماعة. ففي هذه المستويات جميعًا، ثمة مسافة لا بد من كشفها، بين "المنطوق به" و"ما يدور في الذهن"، بين "السلطة المهيمنة" و"فلتات الكلام"، بين "الضبط المسبق" و"التحرر". إن نصوص الجسد والسلوك والكتابة وسائر الفنون ليست سوى حصيلة لهذه الثنائية. إن الرغبة تتخفّى في المجاز، لذلك فالمجاز هو سلطة اللغة الابداعية الحقيقية. والمجاز اقنعة ورموز، حيَل ومداورة، لا مباشرة.. المجاز بنية مراوغة. من هنا ضرورة "قراءة الصمت في أفق الدوالّ"، بتعبير الدكتور أيوب.

إن ولادة النص في النقد الحديث، مثلما ركّزت على العنصر "الغائب" فيه، ركّزت على العنصر "المختلف" أيضًا، بالمقدار نفسه. فالقراءة هي "رؤية المختلف" كما يقول هيغل. ان ثمة في كل خطاب، عنصرًا مسيطرًا عليه لا يشكل جوهر هذا الخطاب، وعنصرًا غير مسيطر عليه هو أصله وجوهره. والحفر في النص هو حفر عن اللامسيطر عليه فيهد.. الكشف عن الرغبة الحرة والكامنة. وضع الإصبع على الاختلاف. إلاّ أن الاختلاف لا يعني، الضدّية، وبالمطلق، وبلا هوادة... بحيث إنه على سبيل المثال، الطعام يؤدي الى اللاطعام: طعام - لاطعام، والحياة الى الموت: حياة - موت، والمتعة للألم: متعة - ألم، وهلمجرّا. فثمة مسارب وتقنيات كثيرة، بل لا تحصى، لتحقيق هذه الضدّية، وقد تكون مؤجلة، وقد يتم تأجيل المعنى في عدد كبير من النصوص الأكثر حداثة إلى ما لا نهاية. ذلك ما أشار اليه بشكل فذّ، جاك دريدا. فهمهمة الطعام، برأيه، لا تنطوي بالضرورة على ستر الجوع.

المرحلة المهمة في تشكل الكتابة، تسجل ما يمكن تسميته بولادة القارئ. فالقارئ، كعنصر مقصي سابقًا عن مركزية الكاتب أو مركزية النص

بمثل هذه الافتراضات والتقنيات، تم الكشف عن النصف الحديث والتعامل معه، وبالتالي توليده. ولم تبتعد التفكيكية عن ذلك، وإن كانت ركّزت على نبش الهوامل والالتباسات وفتحت الاشكالات على مصراعيها. لقد بقرت التفكيكية النص وتركته مفلوشًا امامها، بلا رغبة في إعادة لحمته، او اقتراحات محددة لتركيبه من جديد. أعادت النص الى تشظّيه الأول، وتركته حيث هو.

اقرأ/ي أيضًا: جوناثان غوتشل: كيف تجعل منا الحكايات بشرًا؟

المرحلة الثالثة في تشكل الكتابة، تسجل ما يمكن تسميته بولادة القارئ. فالقارئ، كعنصر مقصي سابقًا عن مركزية الكاتب أو مركزية النص، لاحت علامات ولادته مع علامات الحداثة، وتطورت معها. ولا بد من الانتباه لجملة كان كتبها بودلير تعتبر بمثابة مفتاح لهذه المسألة، وهي: "أيها القارئ الخبيث، يا شبيهي، يا أخي". فالقارئ هنا هو صورة ما من صور الكاتب، وصورة ما من صور النص. وهو شبيه لكليهما، لكنه في الوقت عينه مغاير عنهما، فهو "مخاتل" أو "مراوغ" أو "منافق"، بل "خبيث"، بعبارة بودلير.

ومثلما طرحت "ولادة النص" أسئلتها الحديثة وتقنياتها، فإن ولادة القارئ تطرح، بدورها، مثل هذه الأسئلة والتقنيات. فتحوير العلاقة من المؤلف إلى النص، ومن النص إلى القارئ، حوّر معه الوسائل والافتراضات. لقد حرّر ذلك النص من أحادية المؤلف أو البنية في اتجاه لانهائية القراءات. جعله "مفتوحًا" بمعنى ما. كما طرح اعتبارات كثيرة وجديدة للقراءة. هناك القراءة الخارجية للنص المؤسسة على معطياته التاريخية والنفسية مثلًا، كما أن هناك قراءة اخرى داخلية له مؤسسة على وصفيته اللغوية الألسنية أو البنيويّة. وفي الإمكان جمع الطريقتين معًا، وسواهما، في قراءة واحدة. والقارئ أصبح جزءًا من النص ومولّدًا له بدوره، وملتحمًا به التحامًا يشبه التحام كاتبه به. والنص كبنية تراتبية معقّدة ولّد قارئًا شبيهًا به، صاحب بنية تراتبية معقّدة أيضًا. وحيث إن الوضوح كان أساسًا في بنية النص الكلاسيكي، فإن القارئ القديم كان واقعًا تحت سيطرة اليقين المتسلّط، والمفردة اللغوية الآمرة، والدلالة المتعالية... فهو قارئ قديم محكوم أو مكبّل بسلطة النص. وهو أمر لم يعد اليوم بمثل ما كان عليه في السابق. إن الوضوح لم يعد سيدًا وآمرًا للنص وقارئه في آن، كما إن الغموض لم يعد فائضًا واستطرادًا. تغيّر أصل النص الحديث وشكله، وتغيّر معه قارئه.

إن مواضع الالتباس هي مواضع حرية القارئ، بلا ريب. وحتى مواضع الوضوح غدت مواضع حريته، بل ريبته أيضًا. لقد تحرر من مواقع سلطة قديمة اجتماعية ونفسية ولغوية، وهي كثيرة، ليولد من جديد، مع النص الجديد.

والسؤال هنا: هل يقرأ القارئ ما يريده المؤلف، أم النص، أم هو؟ والإشكالات التي تنتاب المؤلف في تأليفه للنص ينتاب القارئ ما يشبهها، وهي تقترب من إشكالات النص نفسه، في هذه الحلقة المثلثة من الإبداع.

 

اقرأ/ي أيضًا:

القدس من خلال 6 روايات

عبد الفتاح كيليطو.. فن الاستطراد والخطأ