20-أبريل-2021

الكاتب الأرجنتيني ريكاردو بيجليا (1941 – 2017)

القارئ الذي قضى حياته قارئًا، وحرق عينيه تحت ضوء المصباح، هو القارئ الأخير، أو صورته الأولى بحسب الكاتب الأرجنتيني ريكاردو بيجليا (1941 – 2017)، الذي يقصد في قوله مواطنه خورخي لويس بورخيس. والقارئ الأخير هنا، صفةٌ من صفاتٍ أخرى يستعرضها بيجليا في كتابه الذي عُنون بهذا الوصف، "القارئ الأخير" (منشورات المتوسط، 2020/ ترجمة أحمد عبد اللطيف)، ومنها: القارئ المدمن الذي لا يستطيع التوقف عن القراءة، والقارئ الأرق المتيقظ في تعامله وتعاطيه مع النص، والقارئ الذي يقرأ ليعرف كيف يعيش.

المرأة الكاملة بالنسبة إلى الكاتب التشيكي فرانز كافكا هي المرأة التي تقرأ، تلك التي تعيش لتقرأ خطاباته ومخطوطاته

يبدأ بيجليا كتابه بالحديث عن بورخيس، بصفته القارئ الأكثر إبداعًا وتعسفًا وتخييلًا منذ دون كيخوته، وأكثر الكتّاب ارتباطًا بفعل القراءة التي كانت عنده فن المسافة والنطاق. ولكنه، قبل ذلك، قارئٌ تراجيديٌ تائهٌ في مكتبة، ينتقل من كتابٍ إلى آخر، ومن استشهادٍ لاستشهاد، ومن هامشٍ إلى هامش، بصورةٍ مستمرة ودون توقف. إنه، بجملةٍ أخرى، قارئٌ متبعثرٌ في السيولة وتقفي الأثر، غارقٌ في قراءة سلسلةٍ من الكتب، وليس كتابًا واحدًا ومنعزلًا فقط.

اقرأ/ي أيضًا: رواية "غرفة رقم 304".. في أن الثورة شأن ورثة متخففين

ويرى الكاتب الأرجنتيني أن القارئ الذي اخترعه خورخي لويس بورخيس، هو ذلك الذي يتوسل الحرية في استخدام النصوص، ويستعد للقراءة بحسب اهتماماته واحتياجاته: "بتعسفية ما، بميلٍ ما متعمد لسوء القراءة، وبقراءة خارج المكان، وبربط علائق بين الكتب المستحيلة". ويعيد بيجليا سبب هذه الاستقلالية المطلقة للقارئ عند بورخيس، إلى تأثير التخييل الذي تنتجه القراءة ذاتها، ذلك أن التخييل، وبحسب مؤلف "صنعة الشعر"، لا يتوقف فقط على من يكتبه، وإنما على من يقرأه أيضًا.

وإذا كان كل ما يُكتب ليس تخييلًا، فإن كل شيء يمكن قراءته كتخييل، وهذا هو الدرس الأكثر صحة الذي يرى بيجليا أننا تعلمناه من بورخيس، مما يعني أن "البورخيسية"، إن وجدت، هي القدرة على قراءة كل نصٍ كتخييل، والاعتقاد في قدرته. والتخييل، بهذا المعنى، أقرب إلى نظرية من نظريات القراءة.

حديث ريكاردو بيجليا عن بورخيس، يأتي في سياق بحثه عن تجليات القارئ في الأدب، وسعيه أيضًا إلى تشييد حكايةٍ متخيلة لا عن القراءة فقط، وإنما عن القارئ الذي يُعرَّف عادةً بصفته كائنًا منعزلًا وبعيدًا عما هو واقعي، وفقًا للصورة التي نكونها عمن يقرأ، وهي صورة شديدة الكثافة والغموض، سلط عليها الأدب الكثير من الضوء بحسب مؤلف "الطريق إلى إيدا"، الذي ينتقل إلى الحديث عن كافكا بعد بورخيس، ولكن بصفته قارئًا يرى أن الحياة لا تتوقف، ولكنها تبتعد عمن يقرأ.

يعيد المؤلف هنا قراءة رسائل فرانز كافكا وفيليس باور، ولكن بشكلٍ مقتضب، وضمن سياق الهدف الذي نهض عليه الكتاب، وهو البحث عن تجليات القارئ في الأدب. وضمن هذا السياق أيضًا، يُقدِّم العلاقة القائمة بينهما على التراسل بوصفها: "مثالًا فريدًا للشغف بقراءة الآخر، للثقة فيما تحدثه القراءة في الآخر، للافتتان بالحروف".

يستبق فرانز كافكا ما سيأتي، يقرأ هنا ما لم يعشه بعد. بأكثر من معنى، يشفر النص ووضعه المستقبلي مع فيليس

وينطلق بيجليا في قراءته هذه، من السؤال التي طرحه كافكا على ماكس برود: هل يمكن أن يربط المرء فتاة بالكتابة؟ ذلك أن هذا بالضبط ما فعله الكاتب التشيكي مع عشيقته التي أحالها إلى قارئة بالمعنى الحرفي للكلمة، مدفوعًا برغبته وطموحه في تغيير حياتها من خلال القراءة ذاتها. ولأن ردودها غير موجودة، يرى الكاتب الأرجنتيني أن جل ما بقي من فيليس باور، هو صورتها كقارئة فقط.

اقرأ/ي أيضًا: رواية "ملتقى البحرين".. المُتخيَّل الملموس

حدد كافكا ما يريده من باور منذ البداية: أن تكون قارئة فقط. وأراد لعلاقتهما هذه، أن تُبنى وتتشكل في إطار النص المقروء، حيث يمكن أن يلتقيا دون أن يتطفل أحدهما على عزلة الآخر، أو دون أن تتطفل باور، تحديدًا، على عزلته وعالمه الخاص، الأمر الذي يضمن له عدم ذهاب هذه العلاقة أبعد من المسارات التي رسمها لها.

ويشير ريكاردو بيجليا هنا إلى قصيدةٍ صينية أرسلها كافكا إلى فيليس باور، وهي قصيدة يُفتَرض أنها أقرب إلى رسالةٍ تحذيرية تفصح لها عن مستقبل علاقتهما. تقول القصيدة: "في الليلة العميقة/ في الليلة الباردة/ وبعد أن انصهرت في قراءة كتابي/ نسيت ساعة النوم/ عطر مرتبتي المطرز بالذهب تبدد/ والنار انطفأت/ صديقتي الجميلة التي احتوت غضبها بالكاد حينها/ سحبت المصباح/ وسألتني: هل تعرف كم الساعة؟".

تلخص القصيدة حكاية فيليس باور وكافكا، وتُفسِّر أيضًا ما آلت إليه أحوال علاقتهما فيما بعد، ذلك أنها تشير إلى خطورة فقدان العزلة التي يحتاجها القارئ ليقرأ، بسبب دخول شخصٍ ما، زوجة غالبًا، إلى العالم الذي بناه ليتمكن من ممارسة القراءة فيه، الأمر الذي جعل من الزواج فكرة مستبعدة تمامًا بالنسبة لكافكا، طالما أنه يعكر عليه صفو عزلته، ويبدِّل من شكل القراءة التي ستكون عنده عكس ما كانت عليه قبله، بالإضافة إلى أنه سيحوّل فيليس من قارئة إلى زوجة يلتقي بها كافكا خارج إطار النص المقروء الذي اتخذ منه مكانًا للقاءاتهما.

ومن خلال إرساله القصيدة إلى باور، يكون مؤلف "المسخ" قد أشار علانيةً إلى رفضه وجود امرأةٍ تشغل جزءًا يسيرًا من حياته اليومية، التي أراد لها أن تكون أقرب إلى حياة العسكر لناحية الانضباط، بحيث لا يفعل فيها شيئًا غير القراءة والكتابة، وهو ما لن يكون قادرًا على فعله إن اتخذ لنفسه زوجة لا يحتاجها بقدر حاجته إلى قارئة.

يربط بيجليا بين قصة "الحكم" التي كتبها كافكا في ليلةٍ واحدة، وبين علاقته بعشيقته. الكاتب التشيكي نفسه كان قد انتبه إلى وجود رابطٍ بينهما، ولكن سبب هذا الارتباط بدا له غريبًا ومجهولًا أول الأمر، قبل أن يتضح بعد قراءته للقصة على وقع تطور العلاقة بينه وبين فيليس، حيث أدرك أن الارتباط لا يكمن في تشابه عدد حروف "فريدا"، إحدى شخصيات القصة، مع عدد حروف "فيليس"، ولا في تشارك الاسمين لحرف الـ"ف" كحرف بداية، وإنما في مسألتي الزواج والعزوبية، لا سيما أن بطل القصة يرغب، بل ويسعى، إلى ضمان عزوبية نهائية، شأنه شأن كافكا.

وعبر هذه القصة: "يستبق كافكا ما سيأتي، يقرأ هنا ما لم يعشه بعد. بأكثر من معنى، يشفر النص ووضعه المستقبلي مع فيليس. كان يجهز نفسه من أجل عزوبية نهائية". هكذا، يكتشف كافكا طريقة جديدة للقراءة، تنهض على فكرة أن الأدب يصيغ التجربة المعاشة، يشكلها بحالتها، ويستبقها. ولهذا السبب تحديدًا، كتب كافكا يومياته التي تتيح له العودة لقراءة العلاقات التي لم يعشها أو رآها. إنه: "يفهم فحسب ما عاشه، أو ما أوشك أن على أن يعيشه بينما يكرس نفسه للكتابة. لا يسرد ليتذكر، إنما ليجعل الحدث مرئيًا".  

بورخيس قارئٌ تراجيديٌ تائه في مكتبة، ينتقل من كتابٍ إلى آخر، ومن استشهادٍ لاستشهاد، ومن هامشٍ إلى هامش بصورةٍ مستمرة

ينطبق الأمر هنا أيضًا على "رسالة إلى الوالد"، التي جعل فيها كافكا من والده قارئًا، في الوقت الذي كان يمارس فيه، بدوره، نوعًا مختلفًا من القراءة، الغاية منها فهم ما عاشه، الأمر الذي يدفع بالكاتب الأرجنتيني إلى القول بأن طريقة كافكا في قراءة الأدب تكمن في: "تركيز الحكاية في نقطة، ثم إثارة الحافز وإقامة العلاقات المتبادلة الجديدة؛ وعلى الفور يسرد روايته عن الحكاية، يسرد ما لم يسرده السارد الأصلي".

اقرأ/ي أيضًا: النّص وما بعده: العوالم المفتوحة على الاحتمالات

ويرى ريكاردو بيجليا في نهاية حديثه عن كافكا أنه قارئٌ مختلف، يقرأ ويعيد القراءة ويوظف ما يقرأه بهدف فهم ما عاشه وما أوشك على عيشه أيضًا، وهو ما يُفسِّر ارتباطه الشديد بالقراءة التي سعى خلف عزوبية نهائية بهدف ضمان ممارستها دون مقاطعة، وما يُفسِّر أيضًا بحثه عن امرأةٍ تقرأ، أو امرأةٍ يجبرها على القراءة وقضاء الليل في ممارستها، ذلك أن المرأة الكاملة بالنسبة إليه هي تلك التي تعيش لتقرأ خطاباته ومخطوطاته أيضًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

رواية "جلجامش والراقصة".. عشبة الخلود لم تضعْ

تُرجم قديمًا: ما يبقى