01-سبتمبر-2022
المنصات السوشيال ميديا

مشكلة زمن السحر الذي نعيشه أنّ جميع من فيه يريدون أنْ يصبحوا سحرة. والنتيجة أنّ هذا الهوس البلا حدٍّ أو نهايةٍ جعلنا نعتقد أنّ أهل زماننا مسَّهم السَّحر فعلًا. لكنّ تدقيقًا قليلًا يرينا أنَّ الساحر هو المسحور، وأن السحر ليس أكثر من هذه النزعة الوبائية في أن يكون الجميع مُؤثّرين.

الفارق الوحيد الملحوظ أنّ المؤثرين أناس فعل سحرهم فعله ونقلهم إلى الحيز الذي يحلمون به، أما الفئات الأخرى فلا تزال تنتظر وما بدّلوا تبديلًا.

تبقى مشكلة عصر المعلومات على الرغم من نجاحه الكبير في الترويج لنفسه أنه عصر مملوء بالجهل، بينما عصور "اللامعلومات" مملوءة بالمعرفة

 

ضمن هذه الخلطة العجيبة تقع صورة الشخصية الجذّابة، فائقة الفتنة، التي يريد الجميع أن يصيروها.

والتي تطمح أن تكون علامةً على الرغم من كونها شخصية شديدة البساطة، لكن سعيها لأن تكتسب بعدًا كاريزماتيًا يجعلها تجد ضالتها في الثقافة والفكر، لأنّ المعرفة على الرغم من كل الأزمنة التي مرّت عليها لا تزال تحتفظ بجمال طازج شديد الإغواء، ولا يزال الذين يعرفون يُمثّلون في المخيلة العامة الشكل الأكثر فرادة للإنسان.

ليس بوسع من يريدون الوصول إلى ذلك من الشخصيات البسيطة، أي من يريدون إنجاح خلطاتهم السحرية، أن يجدوا الوقت الكافي كي يتفرغوا لرحلة معرفية. أصلًا من يخوضون تلك الرحلات المعرفية هم أناس قطعوا تذاكرهم في وقتٍ مبكرٍ من حياتهم، من دون أن يدعوهم أحد سوى إلحاحهم الداخليّ غير المفهوم، ذلك الذي يشتد مع الوقت إلى أن يرغمهم على أن يعرفوا من هم وما الذي يريدونه.

وبهذا يبدو أهل السحر الجديد، بشخصياتهم البسيطة (كي لا نقول السطحية)، طارئين زمانيًّا على المهمة النبيلة، وأهدافهم وغاياتهم منها غير ما هي موجودة من أجله أصلًا، لكنَّ منطق الزمن راح ينحاز إليهم منذ صاروا الكثرة الكثيرة، حتى دخلنا عصر المعلومات، وصار بوسع هؤلاء أن يستعملوا الأشياء التي يتعرفون عليها لكي يزيدوا من سحرهم. وما أشبه دخول المعلومات بدخول الأسلحة النارية تاريخيًّا، فكما أنهت الأخيرة تاريخ الشجاعة دمرت الأولى معنى المعرفة.

وها نحن ذا في عصر المعلومات، ومجتمع المعلومات، وزمن المعلومات، واقتصاد المعلومات، وفضاء المعلومات.. ولا ندري ما الأسماء والعبارات الجديدة التي يمكن أن تفد إلى أفواهنا لتصف هذا الحال الغريب، القائم على شيء واحد يريد الاستحواذ على كل شيء، دون أن يكون لذلك أساس على أرض الواقع، فلا يزال المجتمع هو المجتمع ولا يزال الاقتصاد هو الاقتصاد، وهذه المعلومات مجرد إضافة إلى ما هو موجود وليست نسفًا له كما توحي تلك العبارات!

تبقى مشكلة عصر المعلومات على الرغم من نجاحه الكبير في الترويج لنفسه أنه عصر مملوء بالجهل، بينما عصور "اللامعلومات" مملوءة بالمعرفة. ولا يخفى على عاقل أنّ الفرق شاسع وهائل بين التقاط معلومة عابرة والعملية الثقافية القائمة على البحث المستمر. تجميع المعلومات أقرب ما يكون إلى الامتحان الذي يبحث فيه التلاميذ والطلبة عن البيانات اللازمة لنيل رضا المعلمين والمقررات. أما التثقيف فأمر قائم على البناء المعرفي الذاتي الذي يريد الوصول إلى إجابات وتصورات شاملة، حول تساؤلات ومشكلات لما هو فينا أو من حولنا. هذا دافعه خارجي، وهذا دافعه داخلي. هذا قابل للتوقف في أية لحظة تعطي شعورًا بالرضا، وذلك يستحيل أن يعرف ركونًا واستكانةً.

يمثّل موضوع المعلومة إشكالًا فكريًا واجتماعيًا قديمًا، يُلقي بثقله علينا في هذه الآونة التي تبدو فيها الثقافة مقتصرة عند السواد الأعظم من المثقفين على معلومات بعينها، يمكن أن نجمعها من مواد من ويكيبيديا، أو من مصادر سريعة كالفيديو والصور والإنفوغراف. الأمر الذي يجعل الكثير من هذه المعلومات يصلنا عبر متابعة منصات محددة، وسوى أنها تصلنا بالطريقة التي تريدها تلك المنصة، فهي أيضًا تقوم على العشوائية والسرعة التي لا يمكن أن تصنع أية مراكمة، في حين أن الفهم الكلاسيكي للمعرفة قائم على التنظيم والترابط والبطء، الذي بمقدار ما يراكم من خبرات ومعارف يقوم بتمرين الدماغ وتنشيطه فيزيائيًا.

هذا طبعًا دون أن نخوض في أن هذا الذي يسمّي نفسه بـ"عصر المعلومات" ليس كذلك من حيث الحرية التي يدعيها، لأنه يُخفي بمقدار ما يُقدم، ولا يتيح سوى ما يخدم أغراضه، ولا يكترث في أن يستبعد كل ما يعارضها.

المعلومات والمعرفة في حالة عداء، لأن المعلومات تعني أن نأخذ ما نريد بسرعة، أما المعرفة فتحتاج إلى وقت طويل موسوم بالأناة، علينا فيه أن نبني أنفسنا بالشكل المثالي. المعلومة تهتم بالجاهز. المعرفة تريد هدم الجاهز وإعادة بنائه. في منطق المعرفة لكي نفهم الماركسية، مثلًا، علينا قراءة كتب كارل ماركس. وهذا أمر يحتاج إلى أسابيع أو شهور. أما في منطق المعلومات فالأمر صيد سريعٌ بارقٌ من فيديو بدقائق معدودة.

المعلومات قصيرة المدى. تخدمنا في الإحاطة بجانب أو جزئية من قضية أو حدث. بينما المعرفة كتلة واحدة متصلة على الرغم من اتساعها

 

المعلومات قصيرة المدى. تخدمنا في الإحاطة بجانب أو جزئية من قضية أو حدث. بينما المعرفة كتلة واحدة متصلة على الرغم من اتساعها.

هناك تطبيقات تُقدم مختصرات للكتب، وهذا أمر يعطينا صورة مثالية لفهم آلية عمل المعلومات، إذ يقوم بتحويل المعرفة إلى مجموعة من المعلومات تُوهم من يحصلون عليها أنهم صاروا في عداد العارفين. هذا إلى جانب آخر، شديد الأهمية في زماننا، هو أنهم يعطون انطباعًا أنهم قرأوا أكثر مما فعلوا. بعبارة أخرى؛ المعلومات تساعدنا في تحقيق كيف نبدو، لا في كيف نكون.

لا علاقة لعصر المعلومات بالمعرفة، ما دام الذي يعرف فعلًا هو الآلات وليس نحن. والذي يتطور ويتقدم هو تقنيات تلك الآلات، بينما عقولنا آخذة في الضمور.

على أحد أن يخرج من بين الجموع ويقول إن السحر ناقص. أو إنّ العصا التي يريد الناس أن يحملوها مثلها مثل كثير من عصوات الحكايات لا تعمل إلا مرات محدودة، لأنّ القوة الحقيقية في من وضع السحر أصلًا، لا في من حمل العصا.