20-فبراير-2017

غرافيتي في القاهرة

1

لا يمكننا أن نكون مثاليين، فيعتقد أحدنا أو بعضنا أنه بمنأى عن هذه الروح الشريرة التي تطاردنا منذ لحظة وجودنا، وربما يكون الإنسان هو الكائن الوحيد على هذه الأرض الذي يشعر بالتهميش أوالاستبعاد ويفكر فيه.

في البداية، لم يكن بإمكاننا كأطفال اكتشاف العلاقات بين الأحداث والمشاعر، أو الأحداث الشخصية والدينية والثقافية المرتبطة سببيًا بالوسط والمجتمع الذي وُلدنا فيه، وكان على الكبار من حولنا أن يزوّدونا بذلك أو يفرضوه علينا (يختارون أسماءنا ويقررون معتقدنا الديني والأخلاقي ومعلوماتهم عن معرفة موضوعات العالم الطبيعي، كما تقرر حالتهم الاقتصادية وظروف معيشتهم وضعنا وتذوقنا بالنسبة للمأكل والمشرب والملبس والمسكن والعادات.. إلخ). ولا يمكن أن يكون هدف هذه السطور هو مناقشة العملية في إطارها الوجودي الثقافي الاجتماعي الأيديولوجي، إنما يعنيني مجرد مقاربة لهؤلاء الذين حافظوا على وهج القدرة لمعرفة المتواليات السببية بأنفسهم، فاستمرّوا في إلقاء الأسئلة المحرجة التي كانوا يُجابون عليها في طفولتهم بهزة كتف من الآباء أو المعلمين: أين يوجد الله؟ ماذا كان يفعل قبل أن يخلقنا؟ وماذا سيقوم به بعد أن يدخل عباده الطيبين الجنّة ويلقي بالأشرار إلى الجحيم؟ كيف يلقي بنا إلى بطون أمهاتنا؟ وهكذا في شتى المجالات يحتضنون ما هو كبير جدًا وما هو صغير جدًا، وكان تفكيرهم السببي يسبق بمعنى ما اللغة التي تفرض نفسها عليهم.

يمكننا أن نستمع من جديد إلى صدى تاريخنا الثقافي والاجتماعي في الخمسينيات والستينيات

هنا أكتفي بالإشارة إلى الاستبعاد أو التهميش لعناصر النخبة التي ستستمر في طرق أبواب التجذّر والراديكالية، في محاولات استرداد الروح الطيّبة للانتماء العضوي الفعّال، وصنع الدور الريادي والطلائعي للعقلية المصرية، تناضل وتتعذّب وتضحّي، تظلم نفسها أو يظلمها الآخرون في ارتحال مستميت نحو مشروع التغيير العضوي الديني والسياسي والاجتماعي. والمطلوب هو النظر والتأمل لمزيد من فهم الظاهرة والتوسع في نقاشها، بعيدًا عن إغراء الركون إلى الانتقادات المعاصرة الرائجة.

اقرأ/ي أيضًا: "المهرجانات".. في مدونة الموسيقى المصرية

يمكننا أن نستمع من جديد إلى صدى تاريخنا الثقافي والاجتماعي في الخمسينيات والستينيات، حيث ظهرت وتبلورت نظمنا السياسية ما بعد الاستقلال، الأقل إعجابًا للأسف الشديد بمن يشرع الأبواب لتدخل الرياح المتجددة أو العاصفة. فقد عاشت مصر بعد قيام تموز/يوليو 1952 عهد تحول وأزمة، كدولة مركزية استمرت لسنوات وبأعلى مستوى من الانفراد بالسلطة -لم يكن موجودًا بهذا القدر في ما أطلقت عليه ضباط 23 يوليو "العهد البائد"- تجسِّد نفس السمات التاريخية للدولة المصرية من حيث انفراد السلطة المركزية بإدارة وتنظيم شؤون الأفراد، وكشعارات وخطب ووعود وتحركات وأخذ وردّ، أبقت نفس مفهوم الصياغة للعلاقة بين المواطن والدولة يحدد كثيرًا من قسمات الشخصية المصرية (الحاكم والمحكوم)، ويفرز على الدوام تقديس السلطة واحترام هيبتها، وفي مقابلها عزلة الشعب وتهميشه واستبعاده.

في هذه السنين يكاد ينصبّ التهميش على رؤوس الجميع، وينزل مندوب مجلس قيادة الثورة بزيّه العسكري إلى كل مصلحة أو جريدة ويظهر الرقيب العسكري حتى في مجال الأدب والفن، ويتكوّن عمومًا جنين "نخبة الكرسي" والقلم الذي يمتلك براعة الجمع بين جاه الوظيفة الحكومية، وما يمكن أن يتولّد عنها من منافع "الإنتاج العلمي" و"الإشعاع الثقافي" في حدود المحافظة على امتيازات ومنافع وولاءات وانضباط. عرف تاريخنا في فترة التحرر الوطني بروز قيادات وطنية فكرية ناضلت من أجل "بديل" وطني وتحرري عصري، ينالها ما ينالها من عقاب أو ثواب الدولة، ووقفت مجموعات مهمة من النخبة المثقفة تراقب مشروع التحرر الوطني عن بُعد، تتعاطف معه بالقدر الذي لا يغضب منها السلطات ولا يحرمها من امتيازاتها. والمسألة تتجاوز معارك الاستقلال والتأميم وبناء السدّ العالي والتصنيع والإصلاح الزراعي وتوفير المتطلبات من وظيفة ومأكل وملبس ومسكن، إلى غاية هذه الإنجازات: الحوار غير المُقيَّد الذي يتيح لنا أن نقرر بحرّية كيف نعيش وكيف نوزّع الأدوار بيننا؟

2

بين حين وآخر، يورد صديقي السكندري ملاحظات متأثرًا باقترابه قليلًا من الريف المصري وبعض قراه في منطقة دلتا النيل مؤخرًا، فيقول إن وجوده في الريف في الفترة الأخيرة جعله يكتشف ظاهرة موجودة بقوة اسمها محمد عبد السلام -أو عبسلام كما يقول الجميع- كما سمح له بمعرفة نوع موسيقي جديد اسمه "الحظوظ" التي هي بديل "المهرجانات" -الكريهة من وجهة نظره- والتي يتمنى بدوره أن تكون الأولى وريثتها الرسمية في العالم السفلي للفنون في مصر. 

محمد عبد السلام عازف أورغ شعبي اشتهر بمصاحبته لمغنٍ شعبي اسمه رضا البحراوي

ومحمد عبد السلام هو عازف أورغ شعبي، تعود جذوره إلى مركز ميت غمر بمحافظة الدقهلية وامتد نشاطه ليُحيي الأفراح والحفلات في ربوع الدلتا واشتهر بمصاحبته لمغنٍ شعبي اسمه رضا البحراوي. سائق التاكسي الذي كان يستقله صديقي السكندري في إحدى مدن الدلتا أخبره ببداية حكاية عبسلام حيث التقط مغنيًا اسمه كتكوت من فرح ما وتزاملا، كتكوت بالكلمة وعبسلام بالعزف، أراد كتكوت مصالحة زوجته فأمسك الميكروفون في أحد الأفراح الشعبية وعبّر عن حيرته بينما عبسلام على الأورج، وبدأ كتكوت بعدها في أداء "الحظوظ" وعُرف بأنه لا يتورّع عن سبّ الدين في ارتجالاته، كما أضاف سوّاق التاكسي الحانق أنهم قبضوا على كتكوت منذ عدة شهور لأنه سبّ الدين للسيسي ذات فرح. ويشير صديقي إلى عدم تأكده من دقة معلومات السائق، غير أنه يؤكد عظمة تعبير السائق بوجهه ويديه وهو يشرح له لماذا سمّوا تلك الفقرات الموسيقية التي يرتجلونها على مسارح الأفراح الشعبية بـ "الحظوظ"، إذ قال السائق: "عشان بتستحظّ كدا".

ويُرجع صديقي أسباب سيولة التعبير الحرّ والدقيق للكلام الريفي إلى لهجاته الممطوطة، التي تشبه لهجة السوريين، خلال محاورات وممازحات الحياة اليومية، وهو ما يستمر وجوده في "الحظوظ" رغم بدائية الموسيقى المصاحبة. ولا يعتقد صديقي بأن تتسرّب "الحظوظ" داخل ثقافة النخبة المصرية، أو المدينية، مثلما حدث مع "المهرجانات"، وذلك لأن الأولى غير مُدجّنة ولأن خشونتها تلقائية ولهجتها ممطوطة كالريف نفسه، الريف الذي لا تعرف عنه النخبة شيئًا إلا في مواسم البحث عن أشياء "إكزوتيك" للتسلّي وتمرير الوقت، وأيضًا لأنها باهظة وتجارية صرفة و"حظوظ"؛ بمعنى أنها توصيف أدق للاحتفال من "مهرجانات" المدن بثيماتها النمطية عن صراع الطبقات في المدن.

اقرأ/ي أيضًا: "كيف حالك جدًا".. الشعر يدخل نفق "الفريندزون"

3

خلال حضوري بمحض المصادفة حفل توزيع جوائز إحدى المسابقات الثقافية الشهيرة، كانت الكاتبة الكبيرة تطلب الإذن في كلمتها بأن تهدي تكريمها وهديتها للجيل الأكثر شبابًا. تحمل كلماتها نوعًا من العتاب يعكس الضيق من الارتقاب والانتظار من قِبل الكثير من النخب حتى داخل مستوطناتها وتخصصاتها وتجمعاتها، لا للهدية المتهمة غالبًا والمشبوهة كأداة من الأدوات السياسية للتحكم ورسم الخرائط وضمان الولاءات، وإنما لنتائج مختلفة لمجهودات أكثر من نصف قرن تُبدى وتكشف، كما لو أن النخب المصرية مجبرة أو معوّقة أو مسوقة بما يضطرها لصياغة أحلام الجماهير وتطلعاتها واختلاجاتها في سياق الرائج الديني والسياسي والثقافي والاجتماعي. تقاوم الاستنارة من أجل التعريف بأن "كل ما هو مرئي يقبع فوق خلفية غير مرئية، وما هو ملموس فوق خلفية غير ملموسة، وما هو مفهوم فوق خلفية غير مفهومة" كما قال الشاعر الألماني نوفاليس (1772-1801). 

تعيش نخب اليوم تحديًا مضاعفًا، حيث تظهر تجليات "تسليع كل شيء"

اقرأ/ي أيضًا: يا ليل.. يا عين: شرقٌ روتْهُ النساء

تعيش نخب اليوم تحديًا مضاعفًا، حيث تظهر تجليات "تسليع كل شيء" التي تستقطب النخب من شتى بقاع الأرض. وهذه الهوائيات المعلقة فوق البيوت في القرى والمدن، وهذه الشاشات المضيئة في أيدي الجميع، ها هنا عشرات الملايين المتروكين لدى النوافذ المفتوحة لكل من يظهر على الشاشة أو يكتب لها من أجل الارتزاق أو الشهرة. 

نتوقف عند سؤال مهم: هل فكرة التهميش مقصودة لذاتها؟ أحاول أن أعثر على إجابة في زخم من السير الذاتية والشهادات على العصر، فأجد في الغالب الأعمّ نوعًا من ثأر الصفوة لتاريخها، في محاولة لتلميع صورة شحبت وهرمت، رغم أن الكثيرين يدركون أن أشخاصهم على وشك النهاية وما بقي منهم ليس الجانب الشخصي، وإنما الكوني الموضوعي، الأمر الذي سيظلّ يجعل من مقولة "سيطرة ثقافة النخبة" عنوانًا مغتربًا ينأى كثيرًا عن شرف الاعتراف والتعفّف، ويظلّ عاجزًا عن تفسير اشتعال الحب للحظات وتجارب كانت تُهمل وتترك جانبًا في سنوات تالية، أو العكس.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أليف شافاك: هذا هو بطلي

تاريخ الفالنتاين