07-ديسمبر-2022
كتاب في جو من الندم الفكري

كيليطو وكتابه في جو من الندم الفكري

يدور الناقد عبد الفتاح كيليطو، في جميع كتبه، حول المفردات نفسها تقريبًا: ألف ليلة وليلة، مقامات الحريري، الجاحظ، المعري، مقدمة ابن خلدون، الترجمة.. لكنه يغير زاوية الرؤية باستمرار فتكثر الأفكار وتتجدد التصورات وتغتني النصوص بالتفاصيل.

والناقد المغربي الشهير يكتب على طريقة أستاذه القديم الجاحظ: بالوثب والقفز. فهو لا يستطيع الانكباب طويلًا على الورق دون أن يتلفت يمينًا ويسارًا، ولا يقوى على المضي قدمًا في موضوع محدد أو نقطة بعينها، فتأتي نصوصه عبارة عن استطرادات لاهثة وتداعيات أفكار تمر على الكثير من الموضوعات في شتى المجالات. ولكن، ومع ذلك، ثمة على الدوام خيط رفيع ينظم كل هذا الشتات في عقد واحد، رابط يكاد لا يُلحظ يعطي الأفكار المتناثرة تناسقًا وسياقًا عريضًا موحدًا.

يكتب عبد الفتاح كيليطو على طريقة أستاذه القديم الجاحظ: بالوثب والقفز. فهو لا يستطيع الانكباب طويلًا على الورق دون أن يتلفت يمينًا ويسارًا، ولا يقوى على المضي قدمًا في موضوع محدد أو نقطة بعينها، فتأتي نصوصه عبارة عن استطرادات لاهثة

كتابه "في جو من الندم الفكري"، (منشورات المتوسط، 2020)، لا يخرج على هذا الأسلوب في التأليف، فتراه يدور مجددًا حول ألف ليلة والمقامات والمعري والجاحظ.. واثبًا من موضوع إلى آخر وقافزًا من فكرة إلى أخرى، لاهثًا في استطرادات سريعة لا تهدأ، شاردًا عن السياق أحيانًا.. أو بالأحرى: مدعيًا الشرود. وعندما تنهي الكتاب وتجلس لتتأمل فيه تكتشف أنك قرأت كتابًا متماسكًا اصطنع التشتت، يقف وراءه عقل ذكي متين يحلو له ادعاء الضياع.

في نص بعنوان "مقامات" يتحدث عن أسلوبه هذا: ".. يضاف إلى هذا عجزي الواضح عن كتابة دراسة رصينة وفق المعايير الجامعية المعهودة. وبالجملة، لست قادرًا على تأليف بحث مستفيض لموضوع ما في فصول متراصة البناء. كان هذا يقلقني ولم أتجاوزه إلا يوم ظهر لي أن ما كنت أعتبره عجزًا يمكن أن أجعل منه الموضوع الرئيس لمؤلفاتي. ليست طريقتي في الكتابة من اختياري، ما هو شبه مؤكد أن ليس بمستطاعي أن أكتب بطريقة أخرى، ولعل هذا هو تعريف الأسلوب، أن تظل حبيس طريقة في الكتابة".

يمتلك كيليطو تواضعًا أصيلًا آسرًا، وإذا كانت أناه تحضر أحيانًا في نصوص الكتاب إذ يكتب بضمير المتكلم، فهذه الأنا تبدو خجولة مترددة وعرضة للأخطاء، والكاتب يتحدث عن عيوبه وأخطائه ولا يأتي على ذكر إنجازاته ونجاحاته. "لست حاضر البديهة" هكذا يصف نفسه، بل إنه يكتب نصًا بعنوان "فن الخطأ" عن ملاحظة تعوزها الدقة أوردها في كتابه "الغائب" حيث عقد مقارنة بين ألف ليلة وليلة والمقامات مستنتجًا أن لا أحد ينام في كليهما، وأعاد المقارنة في روايته "انبئوني بالرؤيا" إلى أن وصلته رسالة من أستاذة تدرّس الرواية تعلمه أنها قلقة لأن الترجمة الفرنسية لألف ليلة جاء فيها أن الشخوص الثلاثة (شهريار وشهرزاد وأختها دنيازاد) ينامون جزءًا من الليل. "ارتبكت وطلبت منها أن تبعث لي الفقرات التي تثبت ذلك، وعند توصلي بها لم يبق وجه للشك أو الإنكار، فتملكني غيظ شديد من نفسي..".

تنطوي كتب كيليطو على مفارقة، فهو المتخصص بالأدب الفرنسي تراه مهجوسًا على الدوام بالتراث العربي "هكذا تخصصت، إن جاز التعبير، في دراسة الأدب الفرنسي، لكن انتهى بي الأمر، ويا للمفارقة، بإنجاز أطروحة عن مقامات الهمذاني والحريري". وهو يستشهد قليلًا بالأدب الفرنسي لكنه، بالمقابل، لا يكف عن التنقيب في "الليالي" وسيرة المعري وأشعاره، وفي آثار ابن رشد، و"المقدمة"، وعلى الأخص في "المقامات"، ليخرج بملاحظات طريفة ومقارنات ذكية، معيدًا الحياة لـ "نصوص لا يقرؤها أحد، بحيث يخيل إلي أنني اليوم قارئها الوحيد وأنها ألفت من أجلي".

في هذا الكتاب، كما في كتبه الأخرى، يحرص الناقد المحترف على إخفاء أدواته، بل هو يظهر كمن رمى هذه الأدوات بعيدًا قبل ولوجه عوالم النصوص المدروسة، فيغدو مجرد قارئ لاه يتنقل بعفوية وحرية كاملتين، يتوقف هنا وهناك ليمتص رحيق الكلمات من أجل المتعة الخالصة، دون دروس ودون خلاصات أو استنتاجات تتمسح بالعلم، فالنقد على طريقة كيليطو هو قراءة متعوية أولًا وقبل كل شيء.

وفي هذا الكتاب ليس ثمة حواجز بين النصوص، وليس هناك حدود زمنية صلدة تفصل الأدباء بعضهم عن بعض. يمكن للمعري أن يلاقي بورخيس، ويمكن لابن القارح أن يتخاطر مع دون كيخوته.. والأدباء العرب القدامى حاضرون الآن وهنا ويملكون ما يتبادلونه مع أدباء الفرنسية والإنكليزية المعاصرون، فأفكار البشر لا تفنى ولا تُستحدث من عدم.. "ابن القارح يسير في الآخرة على خطى الشعراء، دأبه تقليدهم والتشبه بهم، فيعيش ما وصفوه وما عانوه وعاينوه أثناء مسارهم. ستة قرون بعده، سوف يتصرف أحد تلامذته تقريبًا مثله، وأعني دون كيخوطي الذي عند بلوغه الخمسين غادر منزله خفية ليعيش حياة التجوال كما جاء وصفها في روايات الفروسية التي كان يقرؤها بنهم شديد".

 كتابة كيليطو تحرض الأفكار، وتحث على التأمل، وتسيل اللعاب على القراءة والقراءة والمزيد من القراءة، وهي كذلك تغوي بالعودة إلى الكتب الكلاسيكية التي ندعي جميعًا أننا قرأناها دون أن نكون قد فعلنا ذلك حقًا.. فهناك لا يزال الكثير من الكنوز المخبوءة.