16-أغسطس-2021

النَّاقد والمفكِّر المغربي عبد الفتاح كيليطو

إنّ هناك العديد من الكتب التي تُجبرنا كقراء على الدخول في قراءة تفاعلية معها، فهي تُدخلنا بعد أن ننتهي من صفحاتها في حالة هيجان فكري عارم وتأخذنا إلى التفكير مطولًا فيما قرأناه من أسطر، وفيما وقعت عليه عيوننا من حروف.

الخطأ ليس شيئًا يحدث أو لا يحدث، إنّه المكون الأساسي للكتابة، معدنها وطبعها. أن تكتب معناه أن تخطئ

ويُمكنني أن أقول بأنّ هذه الحالة هي تمامًا ما تلبّسني بعد انتهائي من قراءة كتاب "في جوّ من الندم الفكري" لعبد الفتاح كيليطو، فهذا الكتاب ورغمَ صغر حجمه وقلة عدد صفحاته إلا أنّه يدخل ضمن نوعية الكتب المحبّبة بالنسبة لي، وأقصد بالمحبّبة تلك الكتب التي تتلبّسني بعد الفراغ منها كجنيّ قرين، وتهمس في أذني بأفكار حولها وعنها ليل نهار، ويكون عليّ لكي أفضّ اشتباكي معها أِن أدخل معها في شكل من أشكال القراءة التفاعلية التي أكادُ أجزم بأنّها تبتعد بدرجات كبيرة عن شكلِ المراجعة الشاملة التي تأتي كعملية استعراض كلية لأفكار الكتاب ومضامينه.  

اقرأ/ي أيضًا: عبد الفتاح كيليطو: النقطة الفاصلة

ولعلّ أول ما لفتني في كتاب كيليطو هو مدخله وافتتاحيته التي بدأها بعبارة مقتبسة عن الفيلسوف غاستون باشلار يقول فيها: "إذا ما تحررنا من ماضي الأخطاء، فإننا نلفي الحقيقة في جوّ من الندم الفكري، والواقع أِننا نعرف ضدّ معرفة سابقة، وبالقضاء على معارف سيئة البناء"، وإنّ عبارة باشلار هذه تأتي بما يحيل إلى عنوان الكتاب وإلى جوّه العام، أي الندم الفكري؛ هذا الندم الذي يُفترض أن يعيش فيه الباحث أو الكاتب أو المفكّر في كلّ وقت وحين، وذلك عندما يتطلّع إلى منتجه المعرفي والفكري بعينٍ شكوكية فاحصة تبحث عن ما فيه من أخطاء، وهو ما يساعده في تقويض كلّ يقينية فكرية ومعرفية مزعومة، ويقوده نحو الاهتداء إلى معرفة جديدة تأتي ضدّ كلّ معرفة سابقة وعلى أنقاضها.

ويُمكن القول بأنّ البحث في أخطاء الماضي الفكري والكتابي بالنسبة لكيليطو يأتي كجزء لا يتجزّأ مما أسماه هو "الحقّ في الخطأ"، حيثُ يورد: "إنني أعيد النظر فيما كتبت عشرات المرات، ولا أتوقف إلا وفي ذهني أنني إن أعدت القراءة سأكتشف هفوات جديدة. خلافًا لما كنتُ أعتقد في صغري، اتضح لي أنّ الخطأ ليس شيئًا يحدث أو لا يحدث، إنّه المكون الأساسي للكتابة، معدنها وطبعها. أن تكتب معناه أن تخطئ. تساءل رولان بارت عن السكرتيرة المثالية التي لا ترتكب أخطاء حين تقوم برقن نص من النصوص، وأجاب: ليس لها وعي".

وبتفسير مضمون النصّ السابق، يُمكن القول بأنّ المثالية الكتابية، أي ادعاء الباحث أو الكاتب أو المفكّر بكمال منتجه الفكري أو الأدبي إنما هو حالة من الطوباوية المعرفية، وهي طوباوية تتشكّل في جو من اليقين الفكري التام بعيدًا عن أي شكوكية لازمة.

إنّ هذه المثالية الكتابية تأتي عندما تغيب حقائق النقص واللاكمال عن وعي وإدراك ذهنية الكاتب والمفكّر، فيتصوّر الكمال فيما أنتجه، الأمر الذي يدفعه إلى الركون إليه والاكتفاء به، ويقوده نحو إلغاء المفعولية العقلية التي تأتي من الإدراك والوعي بالنقص وحقيقته. وضمن هذا الإطار، فإنّ هناك مقولة جميلة لنيتشه يورد فيها: "ثمة مفعول لما هو غير مكتمل: فمثلما للشكل الناتئ صدىً قوي على المخيلة، لأنّه يبدو على وشك الخروج من الجدار لكن شيئًا ما منعه فتوقف فجأة، فإنّ التمثّل الناقص لفكرة أو فلسفة برمتها، يكون له، أحيانًا، كما للنتوء تأثير أكثر مما للاكتمال. كما يُترك الأمر أكثر إلى المشاهد، مستحثًا، إلى تطوير مما ينفصل أمام عينيه بهذه الحدة من الظلّ والنور؛ إلى إكمال الفكرة والتغلّب بمفرده على هذه الصعوبة التي جالت دون ظهور كامل".

المثالية الكتابية، أي ادعاء الباحث أو الكاتب أو المفكّر بكمال منتجه الفكري أو الأدبي إنما هو حالة من الطوباوية المعرفية

إنّ نيتشه يأتي في عباراته السابقة ليبيّن بأنّ الشكل الناتئ الذي يبرز أمام عين الناظر خارجًا من الجدار أكثر إغراءً من غيره، وذلك لأنّه يُحفّز مخيلة الناظر إليه ويملأه برغبة إعادة خلقه وتطويره وإتمامه، إنّ هذا الشكل الناتئ يستقطب مخيلة الناظر إليه بنقصه ولانموذجيته ولاكتماله ويبّث فيها رغبتها بالاستحالة إلى خالقته وصانعة تمامه واكتماله، وهو بذلك يُشبه كلّ فكرة أو فلسفة أو كتابة لا مكتملة يتطلّع إليها صاحبها مدركًا لحقيقة ما فيها من خطأ ونقص، فتغريه أكثر من غيرها لأنّها تُحفّز فيه رغبته بإعادة بلورتها وصياغتها وإخراجها في صبغة مختلفة وصيغة جديدة.

اقرأ/ي أيضًا: رواية "والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي".. في بلاد عجائب الكُتب

أخيرًا، فإنّ حالة الندم الفكري التي نظّر لها كيليطو في كتابه، هي حالة يُفترض أن يعيش فيها كلّ باحث أو كاتب أو مفكّر، وهي حالة صحية جدًا، حيثُ أنّها تأتي في أطر مناقضة لحالة الرضا الفكري أو المعرفي، تلك الحالة التي تؤدي بالإنسان إلى الدخول في حالة من السبات الفكري، فيتصوّر عبرها أنّ منتجه الفكري أو الأدبي هو آخر آفاق المتاح المعرفي، ويتوهّمه كلّ الممكن وآخر الإمكان.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عبد الفتاح كيليطو في "الأدب والغرابة".. سندباد أدبي

كتاب "بحبر خفي".. أفكار عبد الفتاح كيليطو المتجولة